array(1) { [0]=> object(stdClass)#13382 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 195

مسؤولية العرب بناء استراتيجية أمنية جماعية المعني بها بصورة خاصة السعودية ومصر

الخميس، 29 شباط/فبراير 2024

  • الموقع الجغرافي، ليس فقط، عنصر أساس من عناصر الدولة، هو أيضاً، ببعده الإقليمي والدولي، ركنٌ استراتيجيٌ مهمٌ، لأمن واستقرار أي نظام إقليمي ودولي. فحدود الدول، ليست فقط تلك الخطوط الحمراء المتقطعة التي تفصل بينها نقط، كما تظهر في الخرائط، بل قد تمتد حدود الدول تاريخياً وليس فقط جغرافياً، من الناحية الاستراتيجية، التي فرضها أمنها القومي وتحتمها ضرورات بقائها واستمرارها، في شكل خطوط وهمية يرسمها صانعو السياسة الخارجية للدولة، قد تمتد مسافاتٍ طويلة تتخللها تضاريس وعرة، وربما بحارٍ ومحيطات بعيدة، لآلاف الأميال، بعيداً عن حدودها السياسية اللصيقة بحدود جيرانها الإقليميين المباشرين.

 

الأهمية الاستراتيجية لموقع الدولة الجغرافي

 

إقليم الدولة، من الناحية الاستراتيجية، قد يكون أهم عناصر الدولة الرئيسية الثلاث المعروفة (السكان، الإقليم والحكومة الوطنية)، ليس من حيث ضرورات توفرها مجتمعة، فحسب… بل، وهذا هو الأهم من الناحية الاستراتيجية: إمكانات قيامها، بدايةً .. وكذا فرص واحتمالات استقرارها، وحتى استمرارها وبقائها. الإقليم لا يوفر للدولة مصادر الثروة اللازمة لتقدمها .. وازدهار وغنى شعبها، ومنعة نظامها السياسي، من مواد أولية .. ومصادر طاقة، وإمكانات لوجستية متعددة ومرنة، وربما تكون معقدة، فحسب… بل الأهم: توفر ضرورات أمنها بإمكانات ردع استراتيجية فعالة، تضمن أمنها .. وتحدد دورها وثقلها ووزنها الإقليمي والدولي، كقيمة استراتيجية مضافة لتعزيز الذود عن أمنها .. ورعاية مصالحها الوطنية، وخدمة أهداف سياستها الخارجية، وضمان حصولها على ما تراه نصيباً عادلاً من موارد النظامين الإقليمي والدولي، ولو على حساب المصالح السياسية والأمنية، لجيرانها الإقليميين… دعك من شركائها وخصومها الدوليين، البعيدين عن حدودها السياسية الدولية المباشرة المتاخمة لجيرانها القريبين.

 

كلما كانت الدولة تتمتع بحدود آمنة قابلة للدفاع عنها، مع توفر إمكانات التوسع الإقليمي والتمدد الدولي، بعوائد أكبر وتكلفة أقل، كلما اطمأنّت الدولة على صيانة أمنها .. والذود عن مصالحها، وحجزت لنفسها مقعداً مرموقاً مهاباً، إقليمياً ودولياً. الدولة أي دولة، يمكن أن تندفع تجاه خدمة أمنها القومي، إلى حدود ما تستطيع أن تصل إليه من نفوذ إقليمي ومكانة دولية، بما يتجاوز – أحياناً – إمكانات موارد إقليمها، التي هي مهما بلغ غناها ومقدراتها، تظل موارد محدودة. هذا بسبب أن هاجس الأمن هو الشاغل الرئيس، الذي يشغل بال صانعي القرار في الدولة ومؤسسات الحكم فيها. في كل الأوقات على رموز السلطة ومؤسسات الحكم، ألا تطرف لهم عين، تجاه قضايا الأمن القومي للبلاد.

 

من هنا نرى ميزانية الدفاع تحظى بأولوية استراتيجية مرموقة، ربما أحياناً تتجاوز تلك التي تفرضها برامج ومشاريع التنمية المحلية، دون حساب جدواها الاقتصادية .. أو توقع عائد مادي أو تنموي منها. حتى أن بعض الدول تُحجم الإفصاح عن ميزانية الدفاع لديها، خشية أن يُفهم أو يُساء فهمها من جيرانها وخصومها الإقليميين، مما يدفعهم لسلوكيات مضادة، قد تزيد من حدة توترات قائمة أو محتملة.

 

أمن الدولة القومي، التي تحدده بصورة استراتيجية أهمية وموقع إقليمها، هو خط الدفاع الأول المباشر للذود عن سيادتها .. ورعاية مصالحها الخارجية. كلما ارتفعت قيمة وإمكانات إقليم الدولة الاستراتيجية، كلما قلت تكلفة وارتفع عائده وزادت فاعلية وكفاءة إمكاناتها الدفاعية الذاتية. وفي الوقت نفسه: كلما زادت قدراتها التحالفية مع أطراف دولية أخرى استفادت من الميزة الأمنية التنافسية (الجيوسياسية) لموقعها الجغرافي. والعكس صحيح.

 

الميزة الجيوسياسية لموقع الدولة

 

تتنافس الدول، فيما بينها، بتفاوت الميزة التنافسية (الجيوسياسي) لموقع كلٍ منها الجغرافي، فالدول تختلف فيما بينها من حيث موقع كلٍ منها الجغرافي. الدول قد تتشارك، إقليمياً، من حيث موقعها الجغرافي، إلا أنها تبقى تختص، كلٌ منها بقيمة استراتيجية تنافسية مميزة (جيوسياسية) لموقع كلٍ منها الجغرافي. على سبيل المثال كلٌ من الولايات المتحدة وكندا تقتسمان قارة أمريكا الشمالية، إلا أنهما تتفاوتان من الناحية الاستراتيجية، تبعاً للميزة التنافسية (الجيوسياسية) لموقعهما مقارنةً ببعضهما البعض. وقس على هذا الموقع الجغرافي للدول العربية، على مستوى شبه الجزيرة العربية. على سبيل المثال: تتفاوت الميزة التنافسية (جيوسياسياً) بين كلٍ من العراق والمملكة العربية السعودية وعُمان، رغم أن الدول الثلاث تقع في منطقة إقليمية واحدة وتنتميان لكتلة قومية واحدة.

 

ما يحدد الميزة التنافسية (الجيوسياسية) بين الدولة، من الناحية الاستراتيجية، هو، في المقام الأول النظر لموقع إقليميها، فيما إذا كانت دولة داخلة (مغلقة) تحيط بها اليابسة من جميع الجهات، أم دولة ساحلية شاطئية. استراتيجياً، بصفة عامة، أولاً: الدول الساحلية، تتمتع بميزة تنافسية (جيوسياسية)، أعلى بمراحل من الدول الداخلية، التي لا تطل على بحار. ثانياً: من الناحية الاستراتيجية، أيضاً: ليست أي دولة تطل على بحر أو بحار، في مستوى متكافئ من الناحية الاستراتيجية، لمجرد أنها تطل على بحارٍ.  هنا نجد مستويين للأهمية الاستراتيجية للدول المطلة على البحار. هناك دول مطلة على بحارٍ مغلقة، وهذه تظل دولاً داخلية شأنها، من الناحية الاستراتيجية، شأن الدول التي لا تطل على بحارٍ. في هذا الصدد من الناحية الاستراتيجية، ليس هناك فروق جيوسياسية مهمة بين دول تطل على بحارٍ مغلقة مثل: أذربيجان وأوزباكستان المطلتان على بحر قزوين المغلق، وبين أفغانستان وتشاد، اللتان لا تطلان على بحارٍ، أصلاً.

 

المستوى الثاني: دول تطل على بحارٍ، لكنها لا تطل مباشرةً على أعالي البحار المفتوحة. هنا تتجاوز الأهمية الاستراتيجية أو العوار الاستراتيجي، مساحة الدولة ومدى غنى إقليمها بالموارد الطبيعية والإمكانات البشرية. روسيا الاتحادية، من الناحية الاستراتيجية، رغم كونها أكبر دول العالم مساحة وتزخر بموارد طبيعية هائلة، إلا أنها من الناحية الاستراتيجية، تُعدُ دولة داخلة، لأن سواحلها لا تقع على مياه بحارٍ دافئة قابلةً للملاحة، مطلة على أعالي البحار، طوال السنة.  موانئ روسيا الاتحادية الدافئة على البحر الأسود، عليها أن تمر بمضايق طبيعية وصناعية، حتى تنفذ أساطيلها التجارية والحربية، إلى أعالي البحار. الميناء الوحيد الذي يمكن أن يطل على أعالي البحار (فلاديفوستوك) شرقاً على المحيط الهادي، هو ميناء يغطيه الجليد طوال ثمانية شهور في السنة، وعلى الأساطيل التجارية والحربية الروسية، أن تمر عبر مضايق وبالقرب من جزر لدول غير صديقة، لتتمكن من النفاذ إلى المياه الدافئة للمحيط الهادي، سواء الاتجاه شرقاً أو جنوباً.

 

العبرة هنا للميزة الاستراتيجية (الجيوسياسية) أن تطل الدولة الساحلية موانئها على أعالي البحار مباشرةً .. وأن تكون هذه الموانئ قابلة للملاحة، طوال السنة تضاريسيًا ومناخياً. الأمثلة ً"الكلاسيكية" هنا للدول الساحلية التي تمتد سواحلها في أراضٍ قابلة للملاحة تتمتع بمناخ معتدل تتلاطم شواطئها بأمواج وتيارات دافئة. جميع الدول الاستعمارية تاريخياً (بريطانيا، فرنسا، إسبانيا، البرتغال، هولندا واليابان). تنضم إلى هذه الفئة من الدول الساحلية الكبرى. الولايات المتحدة، تتفوق عليهم جميعاً، من الناحية الاستراتيجية، بموقعها الجغرافي الذي يمتد على طول سواحل دافئةً قابلة تضاريسيًا ومناخياً للملاحة طول السنة، تبلغ آلاف الأميال، مطلة على المحيطين الهادئ غرباً .. والأطلسي، شرقاً. تجلت الميزة التنافسية (الجيوسياسي) لموقع الولايات المتحدة الجغرافي في الحربين العالميتين الأولى (١٩١٤ – ١٩١٩م)، والثانية (١٩٣٩ – ١٩٤٥م). كما أن عظمة الولايات المتحدة الاستراتيجية تتجلى في قوتها البحرية الضاربة، حيث تعتبر أيقونة مكانتها الكونية المهيمنة، في العصر الحديث، بواقع كونها تجوب بحارٍ العالم، على مدار الساعة .. ويمكن أن تصل لأي نقطة توتر في العالم، خلال أيام. كل ذلك بفضل الميزة التنافسية (الجيو سياسية) لموقعها الجغرافي، المطلة سواحله الدافئة والقابلة للملاحة طول العام، الممتد آلاف الأميال، مباشرة على أعالي البحار. ميزة (جيو سياسية) تنافسية رفيعة لا تنافسها فيها أي دولة أخرى في العالم.

 

منطقة البحر الأحمر والقرن الإفريقي والخليج العربي

 

بعد أن ناقشنا الأهمية الاستراتيجية لمواقع أقاليم الدول وتفاوت الميزة التنافسية (جيوسياسياً) بينها، نأتي لتطبيق كل ذلك على منطقتنا العربية، بالذات في منطقة البحر الأحمر، وامتداده إلى القرن الإفريقي .. ومنطقة الخليج العربي وامتدادها إلى بحر العرب والمحيط الهندي، هذه المنطقة ذات الأهمية الاستراتيجية الرفيعة، ليس فقط للدول التي تقع في نطاقها الجغرافي، بل للقوى الكبرى، التي تتنافس على مكانة الهيمنة الكونية، وهي تشهد تاريخياً صراعاً ممتداً تجاوز فترات الصراع الكوني في فترة الحرب الباردة، ليمتد إلى الوقت الحاضر، وربما لأجيال قادمة. لقد ظهرت الأهمية الاستراتيجية لمنطقة البحر الأحمر والقرن الإفريقي، حساسية مرنة لـ "ترمومتر" الأوضاع الإقليمية والدولية، وثيقة الصلة باستقرار المنطقة والعالم.

 

منطقة الخليج العربي

 

لا يمكن مناقشة الوضع الجيوسياسي لمنطقة البحر الأحمر، دون التطرق للوضع الجيوسياسي للجهة المقابلة، شرقاً، بشبه الجزيرة العربية، التي تقع فيها منطقة الخليج العربي. كلٌ من الخليج العربي والبحر الأحمر يوضحان مدى حساسية الأوضاع الجيوسياسية في المنطقة، من الناحية الاستراتيجية، وكم هي الإطلالة على أعالي البحار مهمة، بل ومصيرية، مما يذهب بقيمة الإطلالة على البحار، كفارق جوهري من الناحية الاستراتيجية، بين الدول الداخلة التي لا تطل على بحارٍ مغلقة، وتلك المطلة على بحارٍ ممتدة، لكنها في حقيقة الأمر بحارٍ شبه مغلقة، مثل ما هي الحالة في البحرين الأحمر والخليج العربي، التي تتحكم في مداخلها مضايق طبيعية أو ممرات اصطناعية.

 

في وقت السلم تمر ٢٠ ٪؜ من التجارة العالمية عبر البحر الأحمر. في وقت السلم، أيضاً، تعبر من الخليج العربي أكثر من ٢٥٪؜ من احتياجات العالم من موارد الطاقة الأحفورية. منطقة الخليج العربي تزخر بأكثر من ٣٠% من احتياطي العالم وإنتاجه من النفط، سلعة استراتيجية لا يستغني عنها العالم، ولطالما كانت مصدراً للتوتر بين الدول المطلة على الخليج العربي، ولا تستثنى من ذلك الدول العربية، نفسها. في الثاني من أغسطس ١٩٩٠م، غزا العراق الكويت، ووقف العالم بأسره لإفشال مشاريع العراق التوسعية، التي رأى فيها مظهراً لعدم الاستقرار، لا يمكن التعامل معه إلى بمستوى خطورته على استقرار المنطقة، وسلام العالم. قبل مغامرة غزو الكويت كانت منطقة الخليج العربي ساحةً لحربٍ ضروسٍ نشبت بين العراق وإيران، استمرت لثمان سنوات (١٩٨٠ – ١٩٨٨م).

 

في تلك الحروب ظهر كم هم العرب مهددون بجغرافية منطقة الخليج، بما يفوق عائد ثروتهم النفطية. لم تتردد إيران في استغلال الميزة التنافسية (الجيوسياسية) لموقعها، خدمةً لأغراض حربها ضد العراق، للحؤول دون مساعدة الدول العربية المطلة على الخليج للعراق، اتساقاً مع التزاماتهم القومية. في حقيقة الأمر: حرب الخليج الأولى كانت ملحمة عربية فارسية، ساحة الوغى فيها مياه الخليج العربي، بوضعه الجيوسياسي المعقد، حيث تتحكم إيران عن طريق مضيق هرمز في أهم موارد سوق الطاقة العالمية من النفط. إيران لم تتردد في تهديد السفن المصدرة للنفط الكويتي واستهدافها، مما أضطر الأخيرة لطلب الحماية الأمريكية، الذي تمثل في رفع العلم الأمريكي للسفن الحاملة للنفط الكويتي. مما زاد الأمور تعقيداً، احتمال دخول أطراف دولية، بل قوة عظمى (الولايات المتحدة)، بصورة مباشرة، في تلك الحرب، والعالم على مشارف نظام دولي جديد، بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وانهيار حلف وارسو.

 

هذا الوضع المعقد، والخطير في نفس الوقت، الذي وجدت فيه دول النفط الغنية في منطقة الخليج العربي نفسها فيه، أظهر مدى الحاجة لتفادي المرور، خاصةً في أوقات التوتر في المنطقة، عبر مضيق هرمز، الذي تتحكم فيه، بصورة أساسية إيران، وإن كانت في طرفه الآخر تتحكم عُمان في رأس مسندم، ولكن ليس بالصورة التي تتحكم بها إيران في الطرف الآخر (الشرقي) من مضيق هرمز. جغرافياً: رأس مسندم هو جزء من مضيق هرمز تابع لعُمان، إلا أنه من الناحية الجيوسياسية جزء مقتطع من أراضي عُمان، تفصله أراضٍ تابعة لدولة الإمارات العربية المتحدة!  هذا الوضع الجيوسياسي الشاذ والمعقد، يضعف، بل ويذهب بالقيمة الاستراتيجية لمضيق هرمز، بالنسبة للجانب العربي، لأن ذلك الجزء من المضيق، لا يتصل جغرافياً، بصورة حصرية، بأراضي دولة عربية بذاتها.

 

هذا وضع بالغ الحساسية من الناحية الجيوسياسية، لأن مجرد عدم توفر السيطرة التامة لطرف دولي على جزء من المضايق، من شأنه أن يضعف موقف أي تكتل إقليمي، مهما كانت أواصر ذلك التكتل قوية. مجرد رسم خريطة الحدود، بهذا الشكل المتجزئ بين دولتين عربيتين جارتين، إنما هو مؤشر لتوتر محتمل ممكن أن يتسبب في احتكاك عنيف على الحدود بينهما في أي وقت، لتسوية هذا لوضع الجغرافي الشاذ، مهما كانت طبيعة العلاقات التي تسود الدولتين، في إطار تكتل إقليمي قومي واحد

 

من هنا جاءت الحاجة للمملكة العربية السعودية أن تكون لها إطلالة على بحر العرب المفتوح مباشرة على أعالي البحار. فكانت كل محاولات الرياض أن يكون لها ميناء على بحر العرب، عبر الأراضي اليمنية أو الأراضي العمانية، لكن حدثت تطورات في هذه المنطقة حرب اليمن الأهلية (١٩٦٢ – ١٩٦٧م) وثورة ظفار في عمان سبعينات القرن الماضي، ساهمت في عدم نفاذ المملكة المباشر على بحر العرب، بالإضافة للمناوشات على الحدود بين المملكة واليمن الجنوبي، (٢٧ نوفمبر – ٦ ديسمبر ١٩٦٩م)، عندما احتلت القوات اليمنية الجنوبية مركز الوديعة السعودي على الحدود بين البلدين، حيث انتهت تلك الحرب القصيرة بطرد الجنود اليمنين من تلك البقعة واستعادة السعودية السيادة عليها، مما عقد مشاريع المملكة للنفاذ إلى بحر العرب، والخروج من واقع إقليمها الشبه مغلق، رغم امتداد سواحلها الطويلة على جانبي شبه الجزيرة العربية، شرقاً من ناحية الخليج العربي.. وغرباً من ناحية البحر الأحمر.

 

الوصول إلى بحر العرب، بالنسبة للمملكة العربية السعودية هدف استراتيجي بعيد المدى تحتم ضرورته الاستراتيجية العمل، بكافة الوسائل لتحقيقه، من أجل تأمين ممر بري آمن لنقل النفط إلى ميناء (سعودي) على بحر العرب، تعمل المملكة على بناء ميناء لتصدير النفط عن طريق مد أنبوب نفط، بطول ٥٦٠ كم من ميناء الخرير السعودي على الخليج العربي، إلى ميناء نشطون اليمني في أرض المهرة على الحدود اليمنية العمانية. هذا المشروع رغم جدارته الاقتصادية للطرفين السعودي واليمني، إلا أن مشكلة السيادة تعقد احتمالات تنفيذه.

 

هناك مشروع أكثر طموحاً وتتوفر فيه إمكانات تنفيذه باتفاق تكاملي بين المملكة العربية السعودية وعُمَان، لا يقتصر على تصدير النفط بل يشمل على "لوجستيات" النقل البحري التجاري، بصورة عامة، الهدف الأساسي (الاستراتيجي) منه إيجاد منفذ بحري للمملكة العربية السعودية على بحر العرب، بإطلالة مباشرة على المحيط الهندي من ثَمّ إلى أعالي البحار والمحيطات المفتوحة، دون عواق طبيعية أو اصطناعية، والتخلص تماماً من تعقيدات المرور عبر مضيق هرمز. قناة الملك سلمان البحرية التي تربط المملكة العربية السعودية عبر الربع الخالي والأراضي العُمَانية وصولا لبحر العرب، تمثل تحدياً هندسياً وبيئياً وتقنياً جباراً. قناة الملك سلمان المائية هذه، تمتد بطول ٩٦٠ كم من الجبيل بعرض ١٥٠م وعمق ٢٥م، عبر الأراضي السعودية والعمانية، وصولاً لبحر العرب. هناك موافقات صدرت بشأنها مراسيم للبدء في هذا المشروع العملاق، الذي يأتي ضمن رؤية ٢٠ – ٣٠ للمملكة.  

 

الإمارات العربية المتحدة أيضاً، لديها طموح مماثل، وإن كانت تتبع في تنفيذه بوسائل أكثر "دراماتيكية". الاستراتيجية الإماراتية، في هذا الشأن تقوم أساساً على التواجد العسكري في أماكن حساسة، قد تقتضي تقسيم كيانات سياسية قائمة. القوات الإماراتية مسيطرة على جزر في بحر العرب مثل جزيرة سقطرى الشهيرة بتنوعها البيئي الفريد، وبموقعها الجيوسياسي الخطير في التحكم بحركة الملاحة بين مضيق المندب ومضيق هرمز، بامتداد بحر العرب، عن طريق وجود عسكري بحري في خليج عدن وقواعد عسكرية في جيبوتي. بمساعدة الجنوبيين، المشروع الإماراتي قد يرمي لإعادة انفصال جنوب اليمن من شماله، الوجود الإماراتي في هذه المنطقة الحساسة من الناحية الاستراتيجية.

 

منطقة البحر الأحمر

 

الوضع على جبهة البحر الأحمر، فيما له علاقة بأمن العرب القومي، لا يختلف في حساسيته وتعقيده عن ذلك، على جبهة الخليج العربي. صحيح أن مدخل البحر الأحمر، من الناحية الجنوبية يتحكم فيه مضيق باب المندب، وبصورة لا تقل أهمية من الناحية الاستراتيجية خليج عدن، إلا أن البحر الأحمر، ليس من الناحية الجيوسياسة بحيرة عربية خالصة، عند مدخله مضيق باب المندب (اليمن وجيبوتي) وعند مخرجه، شمالاً قناة السويس (جمهورية مصر العربية).

 

في أقصى الجنوب الغربي للبحر الأحمر، ليس بعيداً عن باب المندب تحتل دولة غير عربية (أريتريا) موقعاً استراتيجيًا مهماً، إن لم يوازي، من الناحية الاستراتيجية إطلالة دولتين عربيتين على المضيق، إلا أنه يضعف من الناحية الاستراتيجية السيطرة العربية الكاملة على مضيق باب المندب، خاصةً أن إسرائيل عملت بالاتفاق مع أسمرة على تواجد عسكري لها في بعض الجزر التابعة لأريتريا في تلك المنطقة الحساسة من البحر الأحمر، بالقرب من باب المندب. في أقصى شمال خليج العقبة تقع مدينة إيلات الإسرائيلية، وهي أرض مصرية احتلتها إسرائيل في حرب ١٩٤٨م، وكانت تسمى أم الرشراش. هذه البقعة، التي تسيطر عليها دولة عدوة للعرب، تقلل من أهمية مضايق تيران وصنافير جنوب خليج العقبة، فتحولها إلى مضايق دولية، تتحجج بحرية الملاحة قوىً دولية، انتقاصاً من السيادة العربية الكاملة، على الأقل في الجزء الشمالي من البحر الأحمر. مما هو جدير بالذكر هنا: إسرائيل تحججت بإغلاق مصر لمضايق تيران وصنافير، لتبرير عدوانها على العرب في حرب الأيام الستة ١٩٦٧م.

 

مع ذلك يظل البحر الأحمر، من الناحية الاستراتيجية بحراً شبه مغلق، إطلالة دوله الواقعة على سواحله، تتحكم فيها مضايق طبيعية واصطناعية (تيران وصنافير، وقناة السويس شمالاً .. وباب المندب جنوباً)، تحتاج الدول المطلة على البحر الأحمر المرور من هذه المضايق، لتنفذ إلى أعالي البحار. بالنسبة للدول المطلة على البحر الأحمر، من الصعب ضمان حرية الملاحة لسفنها، في أوقات الحرب، دون التعرض لمضايقات الدول التي تتحكم في تلك المضايق. من الناحية الاستراتيجية، ليس هناك فرق في أوقات توتر العلاقات، بين دول صديقة وشقيقة، متى كان على المحك قضية الأمن وتغليب مصالح الدول، التي تدفعها غريزة أنانية محضة.

 

حتى مصر، التي تتحكم في قناة السويس، هي خاضعة في إدارة القناة لاتفاقية القسطنطينية (١٨٨٨م)، التي تحدد استحقاقات مصر والتزاماتها تجاه المرور بالقناة وكذا منطقة القناة، بما يحفظ حقوق المساهمين في شركة قناة السويس العالمية. هذه الالتزامات تجاه الملاحة في قناة السويس، حتى بعد تأميم القناة (٢٦ يوليو ١٩٥٦م) لتصبح خالصة السيادة لمصر، امتداداً لسيادة مصر الخالصة، على خليج السويس.  

 

ثُمّ أن التوترات التاريخية في المنطقة، وكذا تغير مصالح الدول، أثر عملياً على مكانة قناة السويس ووزنها للأمن القومي لمصر، نفسها. في حرب 1956م، جُمدت الملاحة عبر القناة .. في حرب ١٩٦٧م، توقف العمل في قناة السويس لتسع سنوات (١٩٦٧ – ١٩٧٥م)، بسبب احتلال إسرائيل للضفة الشرقية للقناة. كما أنه تاريخياً: كانت منطقة القناة لعقود تحت السيطرة الأجنبية، منذ بدء الملاحة فيها عند افتتاحها (ً ١٨٦٩، وحتى تأميمها ١٩٥٦م). حتى مع سيادة مصر على القناة، تظل مصر من الناحية الاستراتيجية حبيسة الوضع الجيوسياسي لموقعها الجغرافي، شأنها شأن بقية الدول العربية المطلة على البحر، فهي شمالاً تطل بسواحلها الطويلة على البحر المتوسط، الذي هو من الناحية الاستراتيجية بحر شبه مغلق، تحتاج المرور عبر مضيق جبل طارق غرباً، لتنفذ إلى أعالي البحار. كما هو الحال جنوباً على سفنها وأساطيلها البحرية المرور من باب المندب، لتنفذ إلى بحر العرب ومنه للمحيط الهادي.

 

حرية المرور ومتطلبات الأمن

 

هذا هو الوضع الجيوسياسي، للخليج العربي والبحر الأحمر، الذي يتحكم في حركة الملاحة الدولية، ويتكفل القانون الدولي ضمان حرية المرور البريء لجميع السفن التابعة للدول غير تلك الشاطئية الواقعة على ضفتي المضايق المائية، سواء الطبيعية منها أو الاصطناعية، خاصةً في أوقات السلم. في أوقات السلم، على سبيل المثال: يتكفل القانون الدولي، والأهم مصالح الدول الشاطئية، التي تقع أجزاء من مياه المضايق الدولية ضمن مياهها الإقليمية، بما فيها امتداد مياهها الاقتصادية، ضمان حرية الملاحة لجميع السفن، مهما كانت هوية وجنسية الأعلام، التي تُرفع عليها.

 

الأعلام التي تُرفع على السفن خاصةً التجارية، ليست بالضرورة معلماً أو رمزاً للحماية، وإن كان ذلك في الأصل مقصوداً تاريخياً بظاهرة رفع الأعلام على السفن التي تبحر في أعالي البحار، أو تلك التي تستخدم الممرات المائية، سواء كانت طبيعية أو اصطناعية، أو حتى المرور عبر المياه الإقليمية والاقتصادية للدول الشاطئية، بما فيها الرسو في الموانئ التابعة للدول الأجنبية.

 

في حقيقة الأمر: الأعلام المرفوعة على السفن التي تَجُوبُ البحار، ليست بالضرورة، في الوقت الحاضر، رمزاً للحماية أو علماً للسيادة، بقدر ما هي في الأساس، علامة شبه تجارية، تحدد الحاجة لرفعها رخصة صلاحية تلك السفن للإبحار أثناء مجرى ومرسى تلك السفن، في أعالي البحار، تتنافس الدول في تسويقها.  حتى أن بعض الدول تشكل عوائد الترخيص للسفن، برفع علمها عليها، جزءاً من مصادر تلك الدول من النقد الأجنبي، مثل ليبريا.  بينما تتكفل شركات التأمين العالمية، دفع أي تعويضات يمكن أن تلحق بشحنات تلك السفن، أو بالسفن نفسها، لأسباب طبيعية، مثل: الأعاصير .. والارتطام بأجسام صلبة ككتل الجليد العائمة .. وما قد تسببه الزلازل في البحر من موجات عاتية (تسونامي) ممكن أن تتسبب في تلف البضائع التي، تحملها تلك السفن التجارية، أو غرق السفن نفسها.

 

 خارج احتمالات المخاطر الطبيعية التي تتعرض لها السفن عندما تمخر عباب البحار، أثناء مرورها على مناطق توتر جيوسياسي، ليس بالضرورة أطرافه دول تعي مسؤولية حرية التجارة وتحترمها، مثل أعمال القرصنة .. وعنف الجماعات المصنفة إرهابية، أو المارقة عن سلطة حكومتها الوطنية .. أو نتيجة الوقوع أو المرور في مناطق عنف مسلح بين أطراف دولية، وإن كانت بطبيعة الحال تكون مسؤولة مسؤولية سياسية وقانونية عن حماية السفن التجارية التابعة للدول غير المتحاربة. بسبب مثل احتمالات المخاطر في تلك الظروف نجد شركات التأمين ترفع من سعر بوليصات التأمين على السفن وما تحمله من بضائع، لمواجهة ارتفاع تكلفة تعويض الأضرار التي قد تنجم جراء مرور السفن من تلك المناطق الخطر المرور بها.

 

حرية التجارة العالمية وأمن حق المرور المكفول لكل الدول في استخدام أعالي البحار وعبر الممرات المائية وحتى المياه الإقليمية والرسو في موانئ الدول الأخرى، بغرض المرور البريء، هو أسس التجارة الدولية وازدهار الأسواق العالمية ودليل لوجستي على توافق دولي لخدمة المصالح المشتركة للدول، حفاظاً على استقرار النظام الدولي، وذوداً عن سلام العالم.

 

لكن، ليست أوضاع النظام الدولي وترتيبات الأمن الإقليمية، بهذه السلاسة المفترض تحكمها سلوكيات عقلانية، تتبصر خدمة مصالح الأطراف الدولية، ضمن مراعاة اعتبارات الاستقرار الإقليمي وتغليب قيمة السلام العالمي. من أهم خصائص أي نظام دولي: النزوع للسلوكيات المسببة للتوتر وعدم الاستقرار، منها لتبصر عوائد الاستقرار والابتعاد عن حالات التوتر. المجتمع الدولي، ليس مثل المجتمع المحلي للدول. من أهم مؤشرات قصور النظام الدولي، ميله لعدم الاستقرار، أكثر من ركونه للاستقرار، نتيجة عدم وجود سلطة قاهرة تمارس جبروت عنفها على أطرافه، لفرض احترام القانون الدولي. باختصار: النظام الدولي لا تحكمه حكومة قوية فاعلة تتحكم في سلوك أعضائه، حتى يتبصروا تبعات عدم الاستقرار ويتصرفوا بعقلانية وحكمة، لخدمة مصالحهم.

 

لكن مع ذلك النظام الدولي، وكذا الأنظمة الإقليمية، يمكن القول إنها متسقات شبه فوضوية، وليست فوضوية بالمطلق، تفتقر إلى أدوات ردع فعالة تكبح جماح عنف وتهور أطرافها. رغم أن أي نظام دولي أو إقليمي، يُعْلي من شأن قيمة السيادة لأطرافه، بطريقة متطرفة، بجعل تقدير مسؤولية أي طرف دولي أو إقليمي، تتوقف على إرادته السيادية الحرة ليس بالضرورة على مسؤوليته تجاه التزاماته الإقليمية والدولية. مع ذلك: في أي نظام دولي هناك آليات عملية وفعالة، تحمل سمات الردع الذاتي، لأي طرف دولي أن يقدم على ما من شأنه أن يعكر صفو الاستقرار الدولي، بالعبث بأهم عناصره فيما يخص حرية الملاحة في البحار والمحيطات ومسارات حركة السفن التجارية، وحتى العسكرية.

 

تاريخياً: كان نظام توازن القوى، من أهم فعاليات الردع للحفاظ على توازن النظام الدولي، في عصرٍ من العصور، ومن ثَمّ استقراره. يأتي في المرتبة الثانية، من حيث ضمان الحفاظ على استقرار النظام الدولي، افتراض العقلانية في سلوك الدول، التي تتبصر أن خدمة مصالحها القومية تكمن في احترامها للقانون الدولي .. وأن احترام حرية الملاحة الدولية، منفعة مادية وأمنية لها، ومن أجل ذلك يفترض أن تتصرف بحكمة وعقلانية لتبصر مدى فاعلية احترام القانون الدولي، في خدمة مصالحها القومية، بالعمل على استقرار النظام. سلوك الدول هذا قد يختلف عن سلوك الجماعات غير النظامية، التي ترى أن وجود النظام الدولي، بمؤسساته القانونية والسياسية، إنما يعكس هيمنة قوى دولية معينة على مقدرات العالم، وبالتالي: هي معنية بتقويض النظام الدولي (غير العادل) من وحجة نظرها، لا المساهمة في استقراره.

 

كانت القرصنة، في الماضي، من أهم عناصر تقويض الأنظمة الدولية المعاصرة، وهي موجودة في وقتنا الحاضر، بل وتشكل أهم التهديدات للملاحة الدولية في منطقة بحر العرب والقرن الإفريقي، على وجه التحديد. والقرصنة، في الوقت الحاضر لا ترتكبها جماعات خارجة عن القانون منفلتة، لمجرد النهب والترويع، كحرفة وصناعة لكسب الرزق، بل أحياناً تتشكل من جماعات خارجة عن القانون في بلدانها، كتعبير سياسي عن تمرد عنيف، لأوضاع سياسية غير مواتية في بلدانهم. في الفترة الأخيرة كانت جماعات القرصنة في القرن الإفريقي تتشكل من جماعات سياسية تعكس الأوضاع السياسية المتوترة في منطقة القرن الإفريقي، بالذات في الصومال.

 

حوثيو اليمن

 

جماعات أخرى، تمارس شكلًا من أشكال القرصنة المنظمة، تعكس الأوضاع السياسية في مجتمعاتها، إلا أنها لا ترقى إلى مستوى اعتبارها أطراف دولية، تحظى باعتراف النظامين الإقليمي والدولي، على حدٍ سواء، رغم سيطرتها القوية على مقدرات الأوضاع السياسية، في بلدانها. من ضمن هذه الجماعات، شبه النظامية، التي تتمتع بنفوذ سياسي طاغٍ في مجتمعاتها، لكنها لا تحظى بالاعتراف الإقليمي والدولي بها (جماعة الحوثي في اليمن).

 

في الفترة الأخيرة، وخاصة بفعل أحداث العنف في المنطقة، التي تمثلت بالعدوان الإسرائيلي على غزة، وجدت جماعة الحوثي الفرصة للفت أنظار العالم لوجودها .. وأن تجاهلها، إقليمياً ودولياً، لم يعد مجدياً، فلجأت لاستغلال حالة عدم الاستقرار في المنطقة، منفذاً ليس فقط لوقف مقاطعتها اقتصادياً وعزلها سياسياً، بل أخطر من ذلك: الاعتراف بها كقوة إقليمية يمكنها أن يكون لها وزن سياسي وعسكري في مناطق عنف بعيدة عنها، بالتحكم في مجريات أعمال العنف عن بعد.

 

استغلت جماعة الحوثي ما يحدث في غزة من عدوان إسرائيلي يصل لحد ارتكاب جرائم حرب وممارسة تطهير واستئصال عرقي يرقى لجريمة الإبادة الجماعية، في عدم تحرك عربي ودولي فعال لمجابهة إسرائيل، وكان مدخلها لخوض الصراع، جدلها: أن أهل غزة لا يواجهون حرباً تستهدف استئصالهم، لكن يواجهون ما هو أقسى: حصاراً قاتلاً يمنع عنهم الماء والغذاء والدواء. بالتبعية: فرض الحوثيون، من جانب واحد، حصاراً مضاداً على إسرائيل، عن طريق مهاجمة أية سفن تدخل إلى إسرائيل أو تخرج منها، لا فرق هنا بين سفن تحمل عتاداً عسكرياً لإسرائيل أم أخرى تحمل منتجات استهلاكية، للاستخدام المدني، سواء كان غذاءً أم دواءً أو منتجات طاقة ووقود. بهذا قدر الحوثيون أنهم وجدوا أخيراً مخرجاً لحصارهم الاقتصادي وعزلتهم السياسية، وتمكنوا بالفعل من فرض مثل ذلك الحصار على إسرائيل.

 

طبعًا: الحوثيون ما كانوا ليقدموا على مثل هذا العمل الخطير، دون مساعدة من قوة إقليمية، ما فتئت تدعمهم منذ استيلائهم على السلطة في صنعاء (٢١ سبتمبر ٢٠١٤م)، التي لم يعترف بها النظامين الإقليمي والدولي. إيران، منذ ثورة الخميني على نظام الشاه، وهي لم تفشل في إظهار تطلعاتها التوسعية، تصديراً لقيم ما تسميه بالثورة الإسلامية. بعد حربها مع العراق، التي استمرت لثمان سنوات، استشرت نزعتها التوسعية في المنطقة، لتشمل العراق ومنطقة الهلال الخصيب، حتى شرق المتوسط .. وجنوباً كان مسرح توسعها اليمن. جماعة الحوثي في اليمن هي أحد أذرع إيران الطولي، لفرض استراتيجيتها التوسعية، خارج نطاق إقليمها، المحدود الأثر والتأثر من الناحية الجيوسياسية، إذا ما هي تطلعت للعب دور إقليمي نافذ في منطقة الشرق الأوسط، وما وراءه حتى القرن الإفريقي، ومنه إلى شرق إفريقيا. كما سبق لها وغزت اقتصادياً وثقافياً ومذهبياً، دولاً في وسط وغرب إفريقيا، معروفة بمذهبية مجتمعاتها السنية، لتحويلها للتشيع، كما هو الحال في مالي وتشاد ونيجيريا وغينيا، وغيرها من دول وسط وغرب إفريقيا، المعروفة بخلفيتها المذهبية السنية.

 

جيوسياسية الموقع وتحديات الأمن

 

الدول العربية، خاصةً دول المشرق، بما فيها مصر، تواجه تحديات أمنية خطيرة، ترجع في المقام الأول لحساسية وهشاشة موقعها الجغرافي. جميع هذه الدول، هي دول شاطئية، تتفاوت إطلالتها على البحار، من بضعة كيلو مترات، مثل ما هو الحال في العراق والأردن، إلى أن يتجاوز بعضها آلاف الكيلو مترات، بل وتمتاز بعضها بإطلالة بحرية وكثرة موانئها، على أكثر من جهة لحدودها الإقليمية، مثل المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية.

 

إلا أن عشر دول عربية (المملكة العربية السعودية، مصر، العراق، الأردن، السودان وخمس من دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية عدا عُمان، استراتيجياً، من الناحية الجيوسياسية، تعتبر دولاً شبه داخلية، لأنها لا تطل مباشرة على أعالي البحار. وضع جيوسياسي، غير مواتٍ أمنياً، خاصةً في أوقات التوتر والصراعات العنيفة، التي تجتاح منطقة الشرق الأوسط، من آن لآخر. هناك دولتان في محيط شبه الجزيرة المائي، تتمتعان بميزة استراتيجية (جيوسياسية) تنافسية، هما: عُمان واليمن. بالإضافة إلى دولة عضو في جامعة الدول العربية، تقع في الجانب الغربي من مضيق باب المندب (جيبوتي).

 

باختصار: من الناحية الاستراتيجية البحتة، الدول التي تطل شواطئها القابلة للملاحة، على أعالي البحار طوال العام، تتمتع بميزة تنافسية (جيوسياسية)، عن تلك التي لها إطلالة ساحلية، مهما بلغ طولها وتوفرت لسواحلها إمكانات ملاحية مواتية. الدول الشاطئية التي تطل مباشرة على أعالي البحار، تتمتع من الناحية الاستراتيجية بميزتين جيوسياسيتين مهمتين. الأولى: إطلالتها المباشرة على أعالي البحار توفر لها إمكانات وقدرات لوجستية متناهية، خاصةً في أوقات السلم. كما أنها في أوقات الحرب توفر إمداداً عسكرياً متواصلاً، بدون عوائق تقريباً، مما يعزز منظومة دفاعاتها المختلفة. الميزة الثانية، التي قد تتوفر للدول الشاطئية ذات الإطلالة المباشرة على أعالي البحار، في حالة ما إذا كانت تتحكم (جغرافياً) في مضايق طبيعية أو اصطناعية، حتى ولو في أحد الجوانب، عند مداخل ومخارج تلك المضايق. ميزة استراتيجية تنافسية مضافة، تتمتع بها الدول الشاطئية المطلة مباشرة على أعالي البحار، في أوقات السلم والحرب معاً.

 

الدول الشاطئية، التي لا تتمتع بإطلالة مباشرة على أعالي البحار، وإن كان وضعها الجيوسياسي، يوفر لها سواحل قابلة للملاحة طوال السنة، إلا أن تكلفة القيام بأعباء أمنها تتضاعف في أوقات السلم والحرب معاً، عن تلك التي تتكلفه الدول الساحلية التي لها إطلالة مباشرة على أعالي البحار، ويزيد من إمكانات قدرة الفئة الأخيرة الاستراتيجية، إذا ما كانت تتحكم في ممرات مائية طبيعية أو اصطناعية، بصورة كلية أو جزئية.

 

على سبيل المثال: المملكة العربية السعودية، وإن كانت من الناحية الجيوسياسية في وضع أفضل من دول أخرى في المنطقة، كالعراق والأردن وإسرائيل، على سبيل المثال، إلا أن افتقارها لإطلالة مباشرة على أعالي البحار، يقلل من ميزتها الجيوسياسية التنافسية، مقارنة بتلك الدول العربية التي لها إطلالة مباشرة على أعالي البحار، مثل عُمان واليمن، التي تتضاعف ميزتها التنافسية، بتحكمها، بمضايق طبيعية، مثل مضيقي هرمز وباب المندب. وجود مضيقي باب المندب وهرمز جنوب شبه الجزيرة العربية، وكذا قناة السويس، في أقصى الطرف الشمالي الغربي للبحر المتوسط، يحد من قدرة المملكة التصديرية للنفط، بما لا يجاري قدرتها الإنتاجية الضخمة. أيضًا: يحد كثيراً من إمكانات استيعاب موانئ المملكة على الخليج العربي والبحر الأحمر، مقارنة باحتياجات سوقها الكبير من وارداتها الاستهلاكية ومن واردات أدوات الإنتاج لتلبية طلبات واحتياجات قدراتها الإنتاجية الضخمة. الأمر يمكن تجاوزه، في أوقات السلم، ولو بتكلفة أعلى بعض الشيء… إلا أن الوضع قد يصبح أكثر تعقيداً في أوقات التوتر وعدم الاستقرار في المنطقة. لذا كان وسيظل من أوليات صانعي القرار في المملكة، إيجاد منفد مباشر لأعالي البحار، من ناحية بحر العرب، مثل ما هو خيار قناة الملك سلمان المزمع إنشاؤها، ضمن رؤية ٢٠٣٠م.

 

طبعاً الوضع الجيوسياسي للمملكة العربية السعودية ومصر على سبيل المثال، أفضل بكثير من الوضع الجيوسياسي للعراق والأردن وإسرائيل. مصر على سبيل المثال، لديها منفذ على البحر الأحمر، حتى مع تعطل منفذها منه إلى البحر المتوسط، عن طريق قناة السويس. لدى مصر ساحل طويل جنوب شرق البحر المتوسط، بطول يقرب من ألف كيلومتر، عوضها تعطيل قناة السويس عن الملاحة في حربي ١٩٥٦، ١٩٦٧م. بسبب حرب ١٩٦٧م، تعطلت الملاحة في قناة السويس لثمان سنوات (١٩٦٧-١٩٧٥م)، وإن ترتب على ذلك خسائر اقتصادية، إلا أن تأثير ذلك لم يكن بنفس التكلفة الاستراتيجية. بالرغم من إغلاق قناة السويس، بسبب حرب ١٩٦٧م، إلا أن مصر تمكنت باقتدار استراتيجي، من أن تستخدم البحر الأحمر عسكرياً، بفرض حصار بحري على إسرائيل من ناحية مضيق باب المندب، أثناء حرب أكتوبر ١٩٧٣م.

 

إسرائيل، من ناحية أخرى: في وضع استراتيجي، لا تحسد عليه. في الأحداث الأخيرة، ثبت أن استثمار الدولة العبرية الاستراتيجي، في شق إطلالة لها على خليج العقبة عنوة، ومن ثّمّ إلى البحر الأحمر باستيلائها على قرية أم الرشاش المصرية في حرب ١٩٤٨م، وتسميتها إيلات، لم يكن بتلك القيمة الاستراتيجية الكبيرة، لا في تاريخها العدواني التوسعي، ولا حتى في حماية نفسها، وتكريس وجودها المغتصب في المنطقة. فرض الحوثيون حصارًا بحرياً على إسرائيل، من ناحية البحر الأحمر ووصول صواريخهم الباليستية ومسيراتهم الانتحارية، إلى منطقة إيلات، جعل الميناء غير قابل للملاحة، وأفرغ تماماً من السفن، ولم تعد إسرائيل قادرة على استخدامه، لا في التصدير ولا في الاستيراد… دعك من استخدامه في مجهودها الحربي أثناء حربها الأخيرة على غَزّة. كما أن التهديد بإغلاق مضيق جبل طارق في وجه حركة الملاحة من وإلى إسرائيل، يؤذن بتشديد الخناق على إسرائيل اقتصادياً وعسكرياً.

 

الوضع الجيوسياسي غير المستقر في منطقة البحر الأحمر والخليج العربي والقرن الإفريقي يشكل تحدياً استراتيجياً خطيراً للأمن القومي العربي، وضع استراتيجي يزداد حرجاً في أوقات التوتر وعدم الاستقرار، كما يظل مزعجاً في أوقات السلم. عدم وجود رؤية عربية مشتركة، على المستوى القومي، لتقدير تحديات هذا الوضع الجيوسياسي في المنطقة، غير المواتٍ، من شأنه تعقيد أي محاولة لبناء استراتيجية عربية موحدة تحمل إمكانات ردع فعالة، يحمي من خلالها العرب مصالحهم .. ويذودون بها عن أمنهم الوطني.

 

لا يمكن تفعيل مثل هذه الاستراتيجية، والعرب فيما بينهم تتجاذبهم مصالح متضاربة وتتحكم في سلوكهم أولويات قطرية ضيقة. لا يمكن للعرب تجاهل مخاطر الخلفية التاريخية والثقافية، التي تشكل أهم بؤر الخطورة المباشرة على أمنهم القومي، ويطلبون من الغير البعيد الحماية والدعم. أمن المنطقة، لابد أن ينظر إليه على أنه قضية أمن قومي عربي، بامتياز. لابد من التحديد بدقة الأطراف الدولية، التي تحول بين العرب وخدمة قضايا أمنهم القومي، بالخطورة الاستراتيجية، التي تمثلها. إقليماً، العرب يواجهون عدواً (إسرائيل) يتربص بهم، يعرف تماماً، حساسية وتعقيد الوضع الجيوسياسي للمنطقة، ويستغله لخدمة أهدافه التوسعية.

 

ليست إسرائيل وحدها التي تشكل خطراً استراتيجياً وشيكاً وناجزاً على الأمن القومي العربي، إيران أيضاً، تشكل خصماً إقليمياً، لا يقل شراسة في خطورته الاستراتيجية على أمن العرب القومي. إيران مثقلة بثأر تاريخي، تجاه العرب، ممتد لأكثر من أربعة عشرة قرناً من الزمان، مدفوعاً بأيدلوجية مذهبية عقائدية، لا تقل خطورة عن ذلك الإرث التاريخي والثقافي، الذي يشكل لعقيدة الثأر الفارسي المركبة تجاه العرب. إيران امتد نفوذها التوسعي، تحدياً لأمن العرب القومي، ليشمل طول المنطقة شرق السويس شمالاً بعمق المسافة بين العراق وحتى ساحل شوق المتوسط. وجنوباً وصلوا إلى الجزء الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة العربية، ليحكموا الحصار على النظام العربي، من أهم نقاط مرتكزاته الاستراتيجية المنيعة (مضيق باب المندب)، ومن ثَمّ يحكموا سيطرتهم على شبه الجزيرة العربية ومنطقة شرق السويس وصولاً إلى مصر، بسيطرتهم الثنائية لأهم مضيقين استراتيجيين للملاحة الدولية في المنطقة.

 

مسؤولية العرب في بناء استراتيجية قومية، للذود عن أمن العرب القومي، هي مسؤولية جماعية، في المقام الأول، لكن المعني بها، بصورة خاصة هنا، دولتين عربيتين، لا ثالث لهما (المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية). يجب ألا يطول الجدل حول تشكيل قوة ردع عربية في منطقة البحر الأحمر، في قضية لمن تكون القيادة لهذه لقوة العربية الرادعة. المهم: إنشاء هذه القوة الرادعة في منطقة البحر الأحمر، مع امتداد مساحة رقعتها الجغرافية لبحر العرب، حتى الخليج العربي شرقاً والقرن الإفريقي، غرباً. لا شك أن مشروعاً قومياً، ذات صفة استراتيجية مصيرية، يتغلب على حساسية الوضع الجيوسياسي المعقد والخطير للمنطقة، إنما هو من أولويات مرتكزات أي قوة ردع عربية كفيلة بتحقيق متطلبات الأمن القومي للعرب، خدمة لاستقرار المنطقة، وصوناً لسلام العالم أجمع.

 

مقالات لنفس الكاتب