احتفلت المملكة العربية السعودية بمرور ثلاثة قرون مكتملة على تأسيسها، وستبدأ رحلة انطلاق بخطى ثابتة نحو مئويتها الرابعة. فهذه البلاد التي بدأ فجرها بالبزوغ في مثل هذا اليوم من عام 1727م، عندما قادها باتجاه الوحدة والبناء الإمام محمد بن سعود ـ رحمه الله ـ هذا التاريخ ليس مجرد مناسبة عادية تمر سنوياً، وإنما هي تذكير لما كانت عليه البلاد وكيف أصبحت. " يوم بدينا " هو تاريخ الانتقال من الصفر إلى الأعالي، من الشتات إلى الوحدة ومن الجهل إلى العلم ومن الفقر إلى الغنى. ففي ذلك التاريخ بدأت هذه البلاد رحلتها في مواجهة أقسى أنواع التحديات والأعاصير الداخلية والخارجية. خسرت أمام بعض التحديات ونجحت أمام أخرى، ولكن لم تخن يوماً أمام أي تحدي. كانت دائماً تعود وكما يقول المثل " مالا يقتلك يجعلك أقوى" ففي حربه على الجهل والصراعات الداخلية، استطاع الإمام محمد بن سعود ـ رحمه الله ـ أن يبدأ رحلة البناء والتطوير وبناء الأمن والأمان في ربوع هذه البلاد المباركة، وأن يزرع فيها بذرة الوحدة والاستقرار.
وفي عام 1932م، عادت البلاد أقوى. فجاء الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود ـ طيب الله ثراه ـ ليبدأ رحلة بناء المملكة وتوحيد أقاليمها، لتبقى من بعده الحصن المنيع ضد كل أنواع التهديدات والمكائد الخارجية وليضع القاعدة الصعبة للمملكة لتصبح من بعده الدولة الأهم بإقليم الشرق الأوسط والمعادلة الأصعب على كل الطامعين والحاقدين من داخل الإقليم ومن خارجه.
لقد استطاع الملك عبد العزيز آل سعود ـ رحمه الله ـ ومن بعده أبناؤه الملوك البررة بناء دولة ذات استقرار ونهضة ندر مثيلها في منطقة مضطربة ومليئة بالمفاجآت غير السارة والحروب والصراعات. لقد قاد ملوك هذه البلاد مملكتهم إلى بر الأمان رغم كل الأمواج والصعوبات. وبعد مواجهة كل التحديات كانت هذه البلاد تعود أقوى من ذي قبل (مالا يقتلك يجعلك أقوى).
هذه التحديات كانت خلق وحدة وطنية من قبائل متناحرة ومتصارعة في صحراء متناثرة الأطراف.
ففي حربه على الجهل والبدع والخرافات، أستطاع رحلة البناء والتطوير وبناء الأمن والأمان في ربوع البلاد المبارك وأن يزرع فيها بذرة الوحدة والاستقرار ومع اكتشاف النفط في شرق المملكة عام 1936م، بدأت تتوفر الموارد اللازمة لبناء المدن والمرافق الصحية والتعليمية وتوطين السكان وخلق الأمن للجميع. ثم كان بناء القوات المسلحة السعودية وتدريبها وتسليحها لتصبح السياج الواقي ضد أي محاولات خارجية لزعزعة استقرار الوطن أو تهديد أمن مواطنيه.
وفي النصف الثاني من القرن العشرين ومع ترسيخ بناء الدولة وحيث أصبح يوم التأسيس من التاريخ ، جاءه تحديات جديدة. فبينما كانت المملكة العربية السعودية تبني مدنها ومؤسساتها، كانت منطقة الشرق الأوسط تغلي بالحروب والانقلابات العسكرية ومحاولة الاستيلاء على الحكم والسلطة. كما بدأت تتغلغل إلى المنطقة أفكار وأيديولوجيات غريبة كالشيوعية وأفكار مختلفة من اليسار واليمين كنوع جديد من الاستعمار والسيطرة الفكرية.
كل ذلك تطلب من المملكة تحصين البيت الداخلي من خلال بناء أجهزة أمنية فاعلة وبناء فكر وطني يقوم على إيمان راسخ بنبذ كل ما هو ضار من أفكار ومحاربة كل ما يهدم ما تم إنجازه من بناء وتقدم واستقرار. ولإيمان المملكة بأهمية الجوار الإقليمي العربي وضرورة خلق استقرار وأمن إقليميين، فقد بدأت المملكة ببرنامج مساعدات اقتصادية استفادة من معظم الدول العربية المجاورة.
لقد كانت هذه المرحلة خطيرة جداً، فلولا تنبه القادة ويقظتهم على الأمن لكان الوضع مختلفاً. فالكثير من الدول ومنها الغنية بالموارد، وقعت فريسة لزعزعة الاستقرار والتغيير السريع والفكر الهادم، أصبحت في وضع لا تحسد عليه.
أما في المملكة فقد تم مجابهة هذه الأخطار بكل حزم وإخلاص والمحافظة على المكتسبات وتمكين البلاد للانتقال إلى مواجهة تحديات جديدة وتحقيق تقدم متواصل.
بعد تثبيت الاستقرار في الوطن بشكل خاص والإقليم بشكل عام انتقلت المملكة إلى محور جديد في البناء الوطني. بناء الإنسان السعودي المتعلم القادر على القيام بمهام بناء الدولة الحديثة، من خلال التعليم المتميز. لقد أرسلت المملكة العربية السعودية عشرات الآلاف من بناتها وأبنائها للدراسة في الخارج والحصول على أعلى الشهادات من أرقى المعاهد العلمية في العالم. وعاد هؤلاء ليتولوا مسؤولية البناء الحديث للدولة. لبناء الجامعات وفق أعلى المعايير العالمية، لتقديم الخدمات الصحية والاجتماعية الأفضل. لقد استطاعت المملكة في هذه الفترة بناء الإنسان السعودي الحديث وتوفير أعلى مستويات العيش الكريم، دون نسيان ماضيه وحضارته. مع كل التطور والتحديث ونقل التكنولوجيا، بقي السعودي ابن هذه البلاد بصحاريها وجبالها وحاضرها وماضيها.
إن هذا التوازن في بناء الإنسان كان له الدور الأكبر في تحقيق استقرار وطني قائم على بناء دولة حديثة بقادة مخلصين وشعب واع بأهمية الحفاظ على المنجزات. مع بداية القرن الحالي الحادي والعشرين وقبل الانطلاق إلى آفاق جديدة واجهت المملكة العديد من التحديات الجديدة والقاسية. فجاءت العمليات الإرهابية التي وصمت، بدون أي وجه حق، الإسلام بالإرهاب، وأصبحت كافة الدول الإسلامية متهمة حتى تثبت براءتها. فعانت الدول الإسلامية بشكل عام والعربية بشك خاص. فالإعلام المعادي وجدها فرصة للابتزاز. بالإضافة إلى أن الإرهاب نفسه أضر فعلاً بالبنى التحتية وباستقرار الدول ومنها المملكة. ونجم عن اللحمة الغربية على الإرهاب احتلال دول وبناء قواعد عسكرية في الجوار، كما نتج عنها الهيمنة الغربية وتصدير العولمة والفكر الليبرالي الذي هز قواعد الاستقرار وطرق العيش للأفراد والشعوب والحكومات على حدٍ سواء. كما برز مفهوم الدول الفاشلة التي أصبحت تصدر كل ما هو ضار من هجرات غير مشروعة ومخدرات وقرصنة وسلاح.
لقد واجهت المملكة هذه التحديات بكل حزم وقوة واستطاعت الحفاظ على المكتسبات ولو بتكلفة عالية جداً ولكن بقيت صامدة مستقرة محافظة على الأمن والأمان الذي وعدت به الدولة منذ البدايات. ولم تتوقف هناك، بل انتقلت للهجوم على هذه التحديات. فشكلت حملة ضد الفكر الضال وبدأت بالانتقال بالفكر من الجمود إلى الانفتاح. كما قامت بحملة عالمية إعلامية للدفاع عن الإسلام وبيان أن هذا الدين لم يمكن يوماً منغلقاً أو إرهابياً وإنما كان دائماً يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة وصداقة الشعوب.
كما واجهت أضرار الهجرة غير المشروعة والمخدرات وتجارة السلاح بتشديد أمن الحدود الأمن الداخلي وتحصين الفرد السعودي علمياً ضد هذه الآفات. وخارجيًا قامت المملكة بحملة من المساعدات الإنسانية التي تخفف آلام الفقر والضعف في الدول الفقيرة للمساهمة في منع الأفراد من الانحراف ومساعدتهم على تطوير أنفسهم قدر الإمكان.
وما جاءت أفكار الإسلام السياسي وظهور الربيع العربي الذي هوى بعدد من الدول من الغنى إلى الفقر ومن الأمن والاستقرار إلى الخوف والقنوط، كانت المملكة تبنى بخطى ثابتة وتقف كالصخرة الشامخة ضد كل من تسول له نفسه العبث بإنجازات هذا الوطن والذي تم تحقيقه خلال ثلاثة قرون من الصفر إلى ما وصلت عليه من تقدم وازدهار.
والمملكة استطاعت بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيزـ حفظه الله ـ وولي العهد الأمين الأمير محمد بن سلمان ـ حفظه الله ـ، مواجهة تحديات أخرى، كان من أهمها التحدي الاقتصادي الناجم عن انخفاض أسعار النفط وجائحة كورونا والأزمة المالية العالمية وبعون الله وبحكمة القيادة الرشيدة استطاعت المملكة تجاوز كل هذه التحديات وحققت نسب نمو فاقت توقعات الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
بالإضافة لذلك، كان التحدي الإقليمي في الحرب على الإرهاب، ومحاولات القوى الخارجية للتوسع في الإقليم على حساب استقراره وأمنه، لكن أخذت القيادة في المملكة على عاتقها مواجهة التحديات والمخاطر وتخطيها والانتقال إلى مرحلة جديدة من البناء الاقتصادي. مع أن انخفاض أسعار النفط والأزمة الاقتصادية العالمية كانت من العوائق، إلا أن القيادة السعودية بقيادة الملك سلمان وولي عهده الأمين محمد بن سلمان قامت برفض التقشف. بل والاندفاع إلى تحسين الأوضاع من خلال إيجاد فرص عمل جديدة للمواطنين.
ففي فترة وجيزة انخفضت نسبة البطالة من 12.4% عام 2011م، إلى 5.1% عام 2023 م، ومن المتوقع أن يزيد هذا الانخفاض خلال الأعوام المقبلة. كما أن الاقتصاد الجديد القائم على تنويع الإنتاج والصادرات، قد فتح المجال أمام المرأة السعودية لاقتحام سوق العمل مما ساهم إلى حد كبير في تحقيق برامج سعودة سوق العمل وفتح المجال لكل السعوديات والسعوديين للعمل في جميع أنواع ومراحل الإنتاج الوطني.
أما على الصعيد الخارجي فقد عمدت المملكة إلى سياسة " تصفير المشاكل" فأعادت العلاقات مع إيران وفسحت المجال للتفاوض مع اليمن وكل دول الجوار من أجل حل كل المسائل الإقليمية بالوسائل السلمية دون اللجوء إلى العنف الذي أثبت أنه يهوي بالدول إلى الفقر والضعف وانعدام الأمن والاستقرار.
لم تكتف المملكة بمجابهة التحديات القائمة، بل نجحت في التغلب على الضعف الاقتصادي الناجم من جائحة كورونا وانخفاض أسعار النفط، خرجت أقوى مما كانت عليه ، فكانت دائماً تخرج من مواجهة التحديات منتصرة شامخة (مالا يقتلك يجعلك أقوى).
فبعد مواجهة تلك التحديات أعلن سمو الأمير محمد بن سلمان ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء عن رؤيا 2030 والتي تنهض باقتصاد البلاد وتنويعه بعيداً عن النفط ونحو بناء المدن النظيفة الخالية من الانبعاثات وبالتالي الانتقال بالبلاد إلى مصاف الدول الكبرى والانتقال بالمواطنات والمواطنين إلى تكنولوجيا منتصف القرن الحادي والعشرين.
لقد خطت المملكة العربية السعودية خطوات جبارة بالانتقال مما كانت عليه عام 1727م" يوم بدينا" إلى الآن. هذا الانتقال الذي يشبه مواجهة المستحيلات.
ولكن لا يوجد مستحيل في هذه البلاد المباركة لقد انتقلت هذه البلاد وبجهود قادتها وشعبها بالاعتماد على الذات، انتقلت البلاد من الصفر إلى مصاف أحدث الدول. تفتخر المملكة بالعديد من الإنجازات. فالخدمات الحكومية " أبشر" الأفضل عالمياً. وشبكة النقل على الطرق والسكك الحديدية تعتمد أعلى المعايير العالمية. كما أن الخدمات التعليمية والصحية في أعلى المستويات وأرقاها.
إن يوم التأسيس الذي تحتفل به المملكة عبارة عن محفز للبلاد لمواصلة مواجهة التحديات والوقوف في وجه كل المخاطر وفي كل الأوقات. قريباً ستحتفل المملكة بمرور ثلاثة قرون على تأسيسها وستنطلق باتجاه المئوية الرابعة. حينها ستكون البلاد قريبة جداً من تحقيق رؤيا 2030 وستكون أقوى مما كانت عليه لصنع رؤى جديدة وتطورات أحدث ومواجهة المستحيلات بإذن الله.