لقد مرت الآن عشر سنوات على الحرب في أوكرانيا والتي بدأت في فبراير من عام 2014م، عندما قامت روسيا باحتلال وضم شبه جزيرة القرم وقدمت الدعم العسكري الكامل للإقصاءين الروس الذين كانوا يحاربون ضد الجيش الأوكراني في إقليم الدونباس. لقد نجم عن هذه الحرب احتلال روسيا لأجزاء من أراضي أوكرانيا (شبه جزيرة القرم وأجزاء من إقليم الدو نباس)، كما نجم عن هذا الغزو تشريد ملايين السكان من أوكرانيا وتحويلهم إلى لاجئين داخل بلادهم وخارجها لتجعل الحرب أسوأ كارثة أوروبية منذ الحرب العالمية الثانية.
في العام 2022م، بدأت روسيا حملة عسكرية ثانية سميت بـ "العملية الخاصة" وهدفت كما قال الرئيس بوتين إلى "حماية الأقلية الروسية" والتي أعلنت استقلال دويلتين في جنوب شرق أوكرانيا هما "جمهورية لوهانسك الشعبية" و"جمهورية دونتسك الشعبية". ولكن في الحقيقة كانت العملية عبارة عن غزو شامل لكافة أراضي أوكرانيا لتغيير نظام الحكم فيها. فقد رأى بوتين "بضرورة نزع سلاح أوكرانيا وإنهاء النازية فيها".
لقد شكلت العملية الخاصة حرباً بكل معنى الكلمة حيث تم قصف مناطق عدة بما فيها العاصمة كييف. مع أن العملية لم تؤد إلى احتلال أراضي جديدة، إلا أنها رسخت الوجود الروسي في إقليم الدونباس واستنزفت قوة أوكرانيا وأضعفتها بشكل كبير بحيث لم يعد باستطاعتها مواصلة الحرب على عدة جبهات.
لقد شكلت هذه الحرب كارثة هي الأسوأ في التاريخ الأوروبي منذ الحرب العالمية الثانية. لقد فاقت نتائجها ومآلاتها أحداث حرب البوسنة (1992-1995م) من حيث أعداد الضحايا والتشريد والدمار ومدة الحرب.
لماذا كانت هذه الحرب؟ وما الذي يجعلها تستمر طيلة هذه المدة؟ وما هي سيناريوهات انتهائها؟ وما هو تأثيرها على الأمن والسلم الدوليين بشكل عام وعلى منطقة الخليج العربي بشكل خاص؟ وما هي الدروس المستفادة؟ هذه الأسئلة وما يتفرع عنها، ستجيب عنها هذه المقالة.
أما بالنسبة لأسباب الحرب فيجب العودة قليلاً بالتاريخ إلى فترة سقوط الاتحاد السوفياتي في الربع الأخير من القرن الماضي، وتغير النظام العالمي والتي كان لها أثر هام في تكوين أفكار القيادة الروسية التي قادت للحرب وساهمت في ترسيخ فكرة مفادها أن الحرب ضرورية لبقاء روسيا. فعندما تم تفكيك الاتحاد السوفياتي في أواخر ثمانينات القرن الماضي، وبدأت المنظومة الاشتراكية بالتلاشي، قام الغرب بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص، بمد الجسور لدول أوروبا الشرقية لتصبح أعضاء أو شركاء في المنظومات الاقتصادية والأمنية الأوروبية.
إن أهم تطور في هذا المجال كان توسيع حلف الناتو شرقاً على حساب ما كان يعرف بحلف وارسو. ففي الفترة من 1999-2009م، ضم الناتو 12 دولة كانت سابقاً إما أعضاء في حلف وارسو (كبولندا وجمهورية التشيك وهنجاريا) أو كانت جزء من الاتحاد السوفياتي كجمهوريات البلطيق.
بالإضافة إلى تمدد الحلف الغربي، سعت الولايات المتحدة إلى تكريس نظام القطب الواحد لاغية من جانبها أي قوى منافسة عالمياً. في البداية، وأثناء حكم الرئيس غورباتشوف وخليفته يلتسين، كان هذا الأمر طبيعياً، فقد كانت روسيا تنزلق من قوة عظمى إلى ما يقرب من الدول الفاشلة. أما بعد رئاسة بوتين ومحاولته استعادة قوة روسيا ومكانتها، فقد بدأت روسيا حملة تمكين روسيا في محيطها من خلال التدخل في حروب القوقاز وشرق أوروبا. ومن هذه التدخلات كان التدخل في الصراع الداخلي في أوكرانيا بحجة حماية الأقلية الروسية. لكن في الحقيقة كان التدخل لحماية روسيا نفسها. ففي العام 2008م، عندما سعت كل من أوكرانيا وجورجيا للحصول على عضوية الناتو، حذّر الرئيس بوتين من أن ذلك يشكل تهديدًا لروسيا. وأكد ذلك بشكل واضح عشية العملية الخاصة في 2022م، عندما أعلن: "إذا تم نشر أسلحة الناتو في أوكرانيا، فسيستطيعون ضرب أي هدف في الجزء الأوروبي من روسيا. فصاروخ التوماهوك سيصل إلى موسكو من أي مكان في أوكرانيا خلال 35 دقيقة. وأما الصواريخ الفرط صوتية، ستستغرق 4-5 دقائق. هذا الوضع هو سكين حول رقابنا"
السبب الثاني للحرب فهو فقدان الوحدة الوطنية في أوكرانيا بشكل خاص وفي أوروبا الشرقية بشكل عام. فبعد سقوط الاتحاد السوفياتي، سادت دول شرق أوروبا أنواع من العنصرية أدت إلى انقسامات في دول كانت في يوم من الأيام دول موحدة وقوية. هذه الانقسامات فسحت المجال لصراعات داخلية ذات امتداد خارجي استطاعت من خلالها الدول التدخل في الشؤون الداخلية لدولة كأوكرانيا. فروسيا دخلت الحرب من باب حماية الأقلية الروسية التي كانت فعلاً تعاني من بطش الأغلبية الأوكرانية.
أما السبب الثالث لإطالة أمد الحرب فهو الدعم الغربي الأوروبي لأوكرانيا والذي لم يهدف إلى حماية أوكرانيا بقدر ما كانت الفكرة هي استنزاف روسيا وخلق واقع يهدف إلى تغيير داخلي يؤدي بالعودة بروسيا إلى أيام حكم يلتسين ومن ثم إعادة روسيا إلى دولة ضعيفة. فمعظم الحملات الهجومية المضادة التي قام بها الجيش الأوكراني كان يقوم على دعم عسكري غربي بري وجوي وبحري. فقد تم إمداد أوكرانيا بكافة أنواع الأسلحة وأحدثها. وعندما تأكدت الدول الغربية أن النظام الروسي متماسك وغير قابل للسقوط بدأت تقلل من ذلك الدعم. فبعد عشر سنوات من الحرب وسنتين من العملية الخاصة، لا زالت روسيا تسيطر على المناطق التي احتلتها في بداية الحرب، ورغم العقوبات لا زالت روسيا تشكل تحدياً للغرب ولم تتراجع مكانتها العالمية.
أما الوضع القائم الآن فيشير إلى تراجع قوة أوكرانيا وكل المؤشرات تدل على أن أوكرانيا تتجه لخسارة هذه الحرب وذلك للأسباب التالية: أولاً، التراجع الكبير في أعداد المقاتلين الأوكرانيين، فرغم إقرار قانون يوسع دائرة المسموح تجنيدهم للقتال، إلا أن أوكرانيا لن تستطيع توفير 300،000 مقاتل تحتاجها فقط للصمود أمام تمركز وتزايد القوات الروسية. ثانياً: لقد تراجع الدعم الغربي بشكل كبير خلال العام الحالي، فبرنامج دعم أوكرانيا الأمريكي بمبلغ 60 مليار دولار لا زال في أروقة الكونغرس منذ ستة شهور، كما أن كمية الأسلحة من مدفعية وأدوات أرضية وجوية في تناقص مستمر.
هذين السببين يغذي كل منهما الآخر. فتأخر المساعدات لا يشجع المواطنين الأوكرانيين على التضحية، حيث أن إمكانية النصر تضعف بدون سلاح ومعدات. لذلك هناك أعداد كبيرة من الرجال في سن القتال قد خرجوا من البلاد. وفي نفس الوقت فإن الدول المانحة بدأت تشعر أن احتمالات النصر لدى الجيش الأوكراني في تناقص، فلذلك تتناقص الرغبة في المساعدة.
فبالتالي تصبح إمكانية مواصلة الحرب عبارة عن مضيعة للأرواح والموارد. بالمقابل، تستطيع روسيا تجديد قواها بشكل متواصل، فهي تعتمد على جيش قوي متماسك، مضاف إليه ميليشيا فاجنر ومقاتلين متطوعين من القوقاز وكم هائل من المسيرات المستوردة من إيران. كما أن العلاقة الإيجابية مع الصين أضعفت من تأثير العقوبات الغربية.
في ظل هذه الأوضاع ما هي سيناريوهات المستقبل؟ هناك ثلاثة احتمالات لما يمكن أن تؤول إليه أحوال الحرب الأوكرانية خلال هذا العام والعام القادم. أولاً هناك احتمال إطالة أمد الحرب. فقد بدأت الدول الغربية ترى أن مساعدة أوكرانيا ضرورية لصمودها حتى نهاية العام. فقامت ألمانيا بمد أوكرانيا بمنظومة باتريوت. وكذلك صرّح مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركي (CIA) بضرورة الإسراع بمساعدة أوكرانيا حتى لا يفرض بوتين شروطه في مفاوضات مستقبلية. فقد تزداد المساعدات، فقد وافق الكونجرس الأمريكي أخيرًا على حزمة المساعدات بمبلغ 60 مليار دولار. ويمكن أن تجند أوكرانيا عددًا أكبر من المقاتلين، ولكن كل ما سيؤدي ذلك هو إطالة أمد المعاناة بدون نصر وفي أفضل الأحوال سيتم الحفاظ على الوضع القائم.
الاحتمال الثاني هو انتصار روسيا واقتلاع النظام السياسي القائم في كييف، واستبداله بنظام آخر يكون مقبولاً لروسيا أو حتى ضم الأراضي الأوكرانية لروسيا. وهذا الاحتمال أدى إلى مخاوف لدى الدول الأخرى، خاصة دول البلطيق التي ترى أن نجاح هذا الاحتمال سيشكل خطراً عليهم ويرون أن عضويتهم في حلف الناتو لن تكون حماية مطلقة لهم. هذا الاحتمال يصعب القبول به وقد يؤدي بدول الناتو أن نحارب بنفسها، فقد أعلنت فرنسا أن الدول الغربية يجب أن تحمي كييف بأي ثمن.
أما الاحتمال الثالث والأكثر إمكانية فهو التفاوض على أساس اقتسام الأراضي. فمن الممكن أن تقبل روسيا بأن تحصل الأقلية الروسية على إقليم الدونباس وتبقى ملكية شبه جزيرة القرم لروسيا. إن اقتسام الأراضي ليس بالجديد دولياً. فالكثير من النزاعات تم حلها الأراضي بين مكونات شعب لا يستطيع التعايش مع بعضه البعض. فقد تم تقسيم الهند عام 1947م، إلى الهند وباكستان ثم في عام 1971م، تم تقسيم باكستان إلى باكستان وبنغلادش. وفي عام 1974م، تم تقسيم قبرص إلى دولتين يونانية وتركية، وفي عام 2011م، تم تقسيم السودان إلى دولتين عربية وإفريقية.
من هنا فإن الاحتمال الأمثل لحالة أوكرانيا هو التفاوض على أساس التقسيم. ولكن سيكون هناك مطالب لروسيا كحياد أوكرانيا وعدم عضويتها في حلف الناتو، فهذا ممكن حله بالتفاوض وإيجاد صيغة مقبولة لكل الأطراف. بدون هذا التقسيم وهذه المفاوضات سيبقى الصراع قائماً والخاسر الرئيس فيه سيكون شعب وحكومة أوكرانيا.
إن هذا الصراع وما آلت إليه نتائجه من ويلات وآلام لكل من أوكرانيا وروسيا فإن له أثر أيضاً على الأمن والسلم الدوليين، فالشعور بالأمن في دول شرق أوروبا أصبح أقل مما كان عليه قبل عام 2014م، وكذلك حالات الاستقطاب الدولي الذي سادت أدت إلى زيادة حدة الصراعات في العالم خاصة في مناطق كالشرق الأوسط وآسيا. وهذا ما يحتم على دول العالم أن تعود إلى تحكيم العقل وتغليب لغة التفاوض والبحث عن المصالح المشتركة بدلًا من النزاع والقتال.
الآن بعد عقد من الحرب ولا يلوح أمل في نهاية قريبة، يجب استخلاص العبر والاستفادة من هذه الحرب في محاولة تفادي مسبباتها. وتعلم الدروس في كيفية الخروج من مثيلاتها بأقل الخسائر وبأسرع وقت. فما هذه الدروس المستفادة؟
أولاً: لقد بينت هذه الحرب أن عملية حماية الدولة تقع على عاتقها. فالحلفاء والأصدقاء، يعملون حسب الأولويات التي تصب بالدرجة الأولى في مصالحهم. لذلك، فعلى الدول أن تبني قوة عسكرية رادعة بالدرجة الأولى لمنع الاعتداء. وإذا حصل الاعتداء، تستطيع الدول أن تثبت القدرة على الصمود. ففي حالة أوكرانيا اعتمدت الدولة بشكل كبير جداً على نوايا الدول الغربية التي تركتها في ساعة العسرة بسبب تغير في أولوياتها. كان الأجدر لأوكرانيا أن تبدأ برنامج في التصنيع العسكري وتنوع من مصادر التسليح.
ثانياً: من غير العقلاني الدخول في صراع مع دولة عظمى، فبالنسبة لدولة كانت من أصغر الدول الأوروبية الدخول في صراع مع روسيا. كان الأجدر الدخول في مفاوضات مبكرة والوصول إلى حلول وسط بدلًا من استنزاف قوة الدولة في صراع مرير مع دولة قادرة على تجديد قواتها وأسلحتها لفترات طويلة جداً.
ثالثاً: وهذا أهم الدروس وهو الحفاظ على الوحدة الوطنية. إن انقسام المجتمعات في الدول على أسس دينية، أو عرقية أو طائفية أو أيدولوجية، يشكل المدخل الأساسي لتدخل الأعداء والمتطفلين في الشؤون الداخلية للدول. لو كان المجتمع موحد في أوكرانيا لما وجدت روسيا الحجة القائلة بحماية الأقلية الروسية. يقع على عاتق الدول بناء وحدة وطنية لدى كافة فئات المجتمع من خلال تكافؤ الفرص للجميع وتحقيق العدالة المجتمعية لكل الفئات. كما يتم بناء الوحدة الوطنية من خلال تعليم أفراد المجتمع جميعاً أهمية حب الوطن والتضحية لأجله وذلك من خلال إبراز الرموز الوطنية الجامعة وتدريس التربية الوطنية في المدارس للجميع. وفي نفس الوقت نبذ كل مسببات الفرقة والانقسام.
إن الحرب في أوكرانيا تشكل سابقة في النزاعات الطويلة الأمد، حيث لا زالت قائمة ومنذ فترة طويلة، أكثر من عقد من الزمان، مع المساعدات العسكرية التي تأتي للطرفين لن تساهم في حسم الصراع وإنما تؤدي إلى مزيد من الويلات. لقد حان الوقت للعودة إلى العقلانية والتفكير الجدي من قبل جميع الدول الراغبة في تحقيق الأمن والسلم الدوليين إلى إيجاد السبل الكفيلة بإنهاء هذا الصراع ووضع حد لآلام الأفراد من الطرفين.