مع بداية الحرب الروسية / الأوكرانية ظهرت تداعياتها السياسية والاقتصادية، وبدأت النقاشات والتحليلات تثار حول مآلات الأزمة وصولًا لطرح سيناريو الحرب العالمية الثالثة، حيث ينظر الكثيرون لما يحدث في أوكرانيا باعتباره بداية للتحول الفعلي في النظام الدولي ونهاية لعصر الهيمنة الأمريكية، فقد وصفت المستشارة الألمانية السابقة "أنجيلا ميركل"، التحرك العسكري الروسي ضد أوكرانيا باعتباره "نقطة تحول في تاريخ أوروبا والنظام الدولي الذي تجسد في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فيما وصف الرئيس الأمريكي "جو بايدن" التحرك الروسي في أوكرانيا بالمنعطف التاريخي الذي سيؤدي إلى تغيرات كبرى، وأن "بوتين" يهدد النظام العالمي القائم؛ فيما رأى الأمين العام للأمم المتحدة أن قرارات الأيام المقبلة ستشكل عالمنا.
في المقابل، يؤكد الطرفان الروسي والصيني على نهاية عصر الهيمنة الأمريكية المنفردة على العالم، وأن هناك نظام عالمي جديد (متعدد الأقطاب) يتشكل؛ بحيث يحفظ للقوى العالمية مصالحها الاستراتيجية. وقد تعددت الرؤى والتصورات حول التغيرات التي بدأت تطرأ على بنية النظام الدولي في ضوء الأزمة الأوكرانية، واحتدام الصراع بين التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة، والمعسكر الشرقي بقيادة روسيا والصين.
من الطبيعي أن تتأثر مصالح الدول المصدرة للطاقة ومواقفها في ضوء "أزمة الطاقة" التي تم توظيفها كأداة رئيسية في الصراع. ونتناول بالتحليل أهم العوامل والتمظهرات المرتبطة بالأزمة الأوكرانية.
أولاً: إشكالية التحول في النظام الدولي وتراجع الهيمنة الأمريكية:
تتخذ المدرسة البنيوية من "الدولة" وحدة أساسية للتحليل؛ وبالتالي فإن الدول والكيانات السياسية تعتبر تابعة في حركتها للقوانين التي يفرضها النظام الدولي؛ والذي هو نتاج لتوزيع القوة بين الدول العظمى والعلاقات التفاعلية بينها، وبالتالي فإن عدد الدول العظمى والمتغيرات التي تطرأ على قوتها تؤثر في طبيعة النظام الدولي وصيرورته.
وعليه، فإن أي تغيير في عدد القوى العظمى لا بد أن ينتج عنه إعادة تشكيل لبنية النظام الدولي؛ فقد شهد النظام الدولي منذ معاهدة (ويستفاليا 1648م) عدة تحولات كنتيجة لتغير الأطراف الرئيسية في النظام، مما أظهر أطرافًا أخرى جديدة؛ تتبنى قيم وأنماط سلوكية مختلفة على المستوى الدولي، وهذا يعني نظاماً دولياً جديداً. كما أن الحروب بين الأطراف الرئيسية في النظام الدولي غالبًا ما تؤدي إلى تغير في بنية النظام الدولي.
ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية تجسد نظام دولي (ثنائي القطبية) مثّل الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة طرفيه، وعاش العالم حقبة الحرب الباردة، والتي شهدت أزمات متعددة، كان أشهرها أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962م. وعندما تفكك الاتحاد السوفييتي، تحول النظام ثنائي القطبية لمرحلة جديدة؛ اختلف حول وصفها المنظرون وفلاسفة السياسة؛ فهناك من اعتبر أن الولايات المتحدة أصبحت في موقع (متفرد) يمنحها السيطرة المنفردة على السياسة الدولية في ظل نظام دولي (أحادي القطبية)، وسقط العالم فريسة للهيمنة الأمريكية، ومن أهم أنصار هذا التوجه "بريجينسكي" الذي ركز على فكرة (المكانة الفريدة للولايات المتحدة، وحذر من أي تقارب أوروبي آسيوي يهدد الهيمنة الأمريكية)، و"فرانسيس فوكوياما"، الذي ركز في أطروحته (نهاية التاريخ) على حسم الصراع الأيديولوجي بين الرأسمالية والاشتراكية بعد انتصار ما أسماه "الديمقراطية الليبرالية" التي ستحكم المجتمعات.
في حين رأى آخرون، أنه رغم انتصار المعسكر الرأسمالي الغربي، وتزايد قوة الولايات المتحدة ونفوذها، إلا أن النظام الدولي دخل مرحلة من السيولة ولم تستقر أركانه على شكل محدد؛ لأن التحول حدث بشكل تدريجي، وأن هناك قوى دولية ستستمر في منافسة الولايات المتحدة من أجل تبوء مركزاً استراتيجياً في النظام الدولي. في حين تنبأ نخبة من المفكرين بأن الولايات المتحدة ستواجه صعوبة في قيادة العالم، نتيجة للتراجع المادي والأيديولوجي المتفاقم في قوتها.
استمر النظام (أحادي القطبية) وأهم أدواته (العولمة)، إلى أن ظهر التراجع في هذا النظام مع الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008م، وترافق ذلك مع تنامي النفوذ الصيني حول العالم، بالإضافة إلى اعتراف روسيا باستقلال إقليمي أبخازيا وأوسيتا الجنوبية، ودخول القوات الروسية لصد القوات الجورجية ووقف تمدد قوات الناتو شرقاً، وكان ذلك أول تحرك عسكري روسي خارج حدودها منذ تفكك الاتحاد السوفيتي، ما اعتبره كثيرون بداية للتحول في النظام الدولي (أحادي القطبية) ودخول النظام حالة سيولة في انتظار تبلور نظام دولي جديد.
وتطبيقاً على الأزمة الأوكرانية، يبدو واضحاً أن الولايات المتحدة لا تريد بالمطلق الدخول في حرب مباشرة مع روسيا أو الصين، لكنها توظف أدواتها العسكرية والاقتصادية لمواجهة التمرد الصيني والروسي على الهيمنة الأمريكية، حيث تؤكد كل من روسيا والصين على نهاية النظام الدولي (أحادي القطبية) الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة، وأنها مجبرة على التأقلم مع عالم (متعدد الأقطاب)، ووقف توظيف قيم الديمقراطية وفقًا للمصالح الأمريكية.
ثانياً: الصراع الجيوستراتيجي بين روسيا والمعسكر الغربي في أوكرانيا:
تمثل أوكرانيا ساحة للصراع بين روسيا والمعسكر الغربي، حيث عملت الولايات المتحدة على التغلغل في أوكرانيا عبر دعمها الجماعات القومية المتطرفة التي برزت كرد فعل على فشل النظام النيو ليبرالي الرأسمالي والأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008م، وذلك بهدف تطويق النفوذ الروسي وإضعافه، ومنعها من مواجهة الهيمنة الأمريكية، لذلك تم إسقاط النظام الموالي لموسكو عام 2014م، والسعي لضم أوكرانيا لحلف الناتو ونصب قواعد عسكرية على الحدود الغربية لروسيا، ما يمثل تهديداً للأمن القومي الروسي، كما أبرز الأهمية الجيوسياسية لأوكرانيا.
من جانبها؛ طالبت روسيا الدول الغربية بتفهم متطلباتها الأمنية، والالتزام بالتفاهمات السابقة بشأن حياد أوكرانيا العسكري، وسحب قواعد الناتو من شرق أوروبا ودول البلطيق التي انضمت للناتو بعد العام 1997م.
والواقع أن الولايات المتحدة تدرك تمامًا وتتوقع ردود الفعل الروسية، لكنها تصر على تأجيج الحرب في أوروبا بمختلف الوسائل، في ضوء التحولات الاقتصادية العالمية التي سببتها جائحة كورونا، وانكشاف الأزمة البنيوية التي يعاني منها الاقتصاد الأمريكي "الوهمي"، حيث تعمل الولايات المتحدة على حفظ مصالحها الاستراتيجية بعيدًا عن أي قيم أخلاقية وعلى حساب القارة الأوروبية وشعوبها.
من ناحيته؛ برر بوتين في فبراير 2022م، العملية العسكرية في الأراضي الأوكرانية، بأنها جاءت لحماية السكان الروس في إقليم (الدونباس) من هجمات المتطرفين القوميين الذين يحكمون أوكرانيا منذ 2014م، واصفاً إياهم بالنازيين الجدد، بالإضافة لصد تمدد حلف الناتو شرقاً بعد الحديث حول نية الناتو إدخال أسلحة استراتيجية إلى أوكرانيا بعد ضمها للحلف، والعمل على استعادة جزيرة القرم. كما استخدمت روسيا (الفيتو) ضد مشروع قرار يدين العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. في المقابل اعتبرتها القوى الغربية غزوًا لدولة مستقلة وخرقاً للقانون الدولي، وفرضت عقوبات هستيرية ضد روسيا.
يخوض المعسكر الغربي حربًا بالوكالة ضد روسيا، فبالإضافة للغطاء السياسي، قدم المعسكر الغربي دعمًا سخيًا لأوكرانيا يقدر بمئات مليارات الدولارات حتى الآن غالبيتها عسكرية. كما أكدت مجموعة السبع عدم اعترافها بالحدود التي فرضتها روسيا بالقوة. في المقابل؛ تحذر روسيا من إرسال أي أسلحة استراتيجية لأوكرانيا، واستخدمت صادراتها لأوروبا من النفط والغاز للضغط على الحكومات الأوروبية، مما خلق أزمة طاقة عالمية.
من ناحية اخرى، اعتبر "بوتن" أن مساعي انضمام فلندا والسويد للناتو يزيد التوتر، وهو أمر يستوجب الرد، ودعا البلدين للتمسك بالحياد العسكري، خصوصاً وأن روسيا لا تشكل أي تهديد لأمنها يبرر لها الانضمام لحلف "الناتو" الذي تعتبره روسيا تحالفاً عسكرياً عدوانياً.
وليس من الواضح كيف ستتأثر مواقف الأطراف، خصوصاً بعد أن غيرت تركيا (بضغط أمريكي) موقفها ووافقت على انضمام فلندا والسويد للناتو؛ حيث تريد واشنطن تسريع عملية الانضمام؛ مما يعقد المشهد السياسي أكثر، بحيث ستواجه موسكو واقعاً جيوستراتيجياً مغايراً مع دخولها في حالة عداء مع جميع الدول المطلة على بحر البلطيق، مما يضعف موقعها الاستراتيجي ويحد من قدرتها على القيام بنشاطات عسكرية في المنطقة. فيما ردت روسيا بالانسحاب من "مجلس بلدان حوض البلطيق" باعتباره من مخلفات النظام الدولي الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة، وأمدت أسطول البلطيق بسفينتين نوويتين جديدتين.
اقتصاديًا، تصاعدت (أزمة الطاقة) العالمية بعد فرض التحالف الغربي عقوبات اقتصادية شاملة على روسيا التي أكدت فشل العقوبات الغربية، وردت بوقف إمداد أوروبا بالنفط والغاز وقرار الدفع بالروبل. وبدلاً من دعم أوروبا؛ باعتها الولايات المتحدة النفط والغاز بأسعار مرتفعة، فخرجت عدة احتجاجات في دول أوروبية تطالب بوقف التصعيد في أوكرانيا. الملفت أن إدارة بايدن رفضت العام الماضي تصنيف روسيا كدولة راعية للإرهاب، لأن ذلك من شأنه الإضرار بالمصالح الاقتصادية الأمريكية.
عقيدة روسية جديدة: مسوغ روسي للتوسع:
صادق الرئيس بوتين بداية عام ٢٠٢٣م، على "عقيدة جديدة للجيش الروسي" تقوم على مفهوم "العالم الروسي" الذي يستخدمه المنظرون الروس لتبرير السياسة الخارجية الروسية بشأن الدفاع عن مواطنيها في الخارج وحماية حقوقهم، وهذا ما يبرر التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، بما يعزز مكانة روسيا على المسرح الدولي عبر سعيها لخلق عالم متعدد الأقطاب، من خلال التحالف مع قوى سياسية واقتصادية كبرى مثل الصين والهند، وأن سياسة خفض التوتر وتحسين العلاقة مع الغرب التي تبنتها روسيا فترة التسعينات لم تجد نفعًا، بل جعلت الغرب وحلف الناتو يزداد تغولًا على مصالح روسيا الاستراتيجية. ويرى "بوتين" أن بلاده لن تخسر في مواجهة الغرب (الليبرالي) في أوكرانيا، بل أنها رسخت نهج سياسي وسيادي من شأنه أن يعيد لروسيا نفوذها العالمي وهذا ما تجسد خلال الأزمة الأوكرانية المتصاعدة والتي نعتبرها نقطة تحول في السياسية الخارجية الروسية والنظام الدولي برمته.
وتطبيقًا للعقيدة الروسية ضمت روسيا الأقاليم الأربعة التي سيطرت عليها بعد موافقة سكانها على الانضمام للاتحاد الروسي في استفتاء نهاية سبتمبر 2022م، وذلك بالتزامن مع تحركات للأسلحة النووية الروسية، ما دعا للتحذير من تنفيذ بوتن لتهديداته النووية.
ثالثاً: التحول في المواقف العربية في ضوء الأزمة الأوكرانية:
رغم التزام الموقف الرسمي العربي بالحياد، وضعت الأزمة الأوكرانية الدول العربية وخصوصاً المصدرة للنفط في تناقض مع الرغبات والمصالح الأمريكية، ونرى أن تضارب المصالح جاء في إطار تبلور اصطفافات سياسية واقتصادية جديدة، وهذا اتضح حين تجنبت الإمارات إدانة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، ورفضت التصويت لصالح قرار يدين روسيا في مجلس الأمن، وقبلها استقبلت الرئيس "بشار الأسد" (حليف روسيا)، وهذا يعكس رغبة الإمارات بعلاقات أقوى مع روسيا.
كما رفضت السعودية والإمارات والجزائر طلب الولايات المتحدة بزيادة إنتاجها من النفط والغاز، الأمر الذي يضر بمصالحها ومصالح روسيا معاً، كما أنها لا تريد دعم إدارة "بايدن" التي أوقفت صفقات الأسلحة، وسعت للعودة للاتفاق النووي مع إيران، ما يعتبر خذلاناً للسعودية والإمارات والقضايا العربية عمومًا، ما دفعها للتقارب مع الصين وروسيا. وفي هذا الصدد؛ أكد ولي العهد رئيس مجلس الوزراء سمو الأمير محمد بن سلمان بأن بلاده متمسكة بالحفاظ على العلاقة التاريخية مع الولايات المتحدة، مبرزاً الأهمية الجيوستراتيجية للمملكة، مؤكدًا على حق بلاده في البحث عن مصالحها. فالمملكة تمتلك جزءاً مهماً من الموارد العالمية، ولها مصالح على الولايات المتحدة أخذها بالاعتبار، وإلا فهناك فرصة للاستثمار مع قوى أخرى مثل الصين وروسيا. كما لوحت السعودية بإمكانية بيع النفط بالعملة الصينية (اليوان)، ما يهدد سيطرة الدولار على المعاملات التجارية الدولية.
رابعاً: شلل الأمم المتحدة: الحرب أداة أمريكية مجربة
جرب الاستراتيجيون والمخططون الأمريكان مختلف أدوات الصراع (العنفية وغير العنفية) لكن بالمحصلة تبرز القوة العسكرية (الحرب) باعتبارها الحل الأخير والأداة الأنجع لتنفيذ المخططات الأمريكية وتحقيق أهدافها؛ فالحرب هي الأداة الوحيدة التي تخرج الولايات المتحدة من أزماتها السياسية والاقتصادية، وتلك وصفة مجربة بالنسبة للولايات المتحدة جربتها خلال وبعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، والتي منحتها السيطرة العالمية.
كما أبرزت حرب غزة التناقض وازدواجية المعايير في التعامل الأمريكي والغربي عمومًا مع احتلال روسيا لأراضي أوكرانية، ومع إسرائيل التي أصبحت تحتل كامل الأراضي الفلسطينية، وتكثف هجماتها في سوريا ولبنان، وأهداف في إيران، ما يؤكد اندفاع إسرائيل لتسخين الجبهة مع إيران وصولًا لحرب إقليمية شاملة؛ تقول الولايات المتحدة أنها لا تريدها، لكنها تطلق يد إسرائيل في الرد. ونرى هنا أن رد إيران (الهزلي) مؤخرًا على قصف إسرائيل للقنصلية الإيرانية بدمشق الشهر الماضي مثل ضربة للجهود الدولية الضاغطة على إسرائيل لوقف حرب الإبادة التي تشنها ضد غزة، وبرر لإسرائيل حقها في الدفاع عن نفسها، ومنحها الدعم والتعاطف، ما يزيد من فرص التصعيد في المنطقة. كما تتدخل الولايات المتحدة عسكريًا في حربي أوكرانيا وغزة، وتفضل استخدام القوة لحسم الحرب وإخضاع العدو وهي وصفة أمريكية مجربة.
وفي ضوء التقارب الروسي الصيني المتعاظم، والتوتر مع الصين بشأن تايوان نرى أن ظروفًا موضوعية تقود لدخول القوى الكبرى في صدام عسكري غير مباشر لتحديد مناطق النفوذ والمصالح الاستراتيجية، وإعادة رسم حدود القوة في إطار نظام دولي متعدد الأقطاب يسقط التفرد الأمريكي في العالم.
ومن ناحية أخرى، من غير المتصور تسوية الأزمة الأوكرانية سياسيًا بعد أن أفشلت روسيا محاولات التحالف الغربي لعزل روسيا وتفكيكها، وبفعل تقاربها مع الصين وغيرها من الدول، أصبحت روسيا تراهن على تفكك التحالف الغربي بناء على تضارب المصالح بين الدول الغربية والولايات المتحدة بعد أن انعكست العقوبات الغربية سلبًا على المصالح الغربية والعالمية.
هذا الصراع الدولي المتصاعد انعكس بالضرورة على أهم مؤسسات النظام الدولي البائد وهي الأمم المتحدة؛ والتي أنشأت بهدف حفظ السلم والأمن الدوليين، أيضًا كون دورها يعكس مستوى التوافق أو الصراع بين القوى الكبرى الخمس داخل مجلس الأمن، فإما أن يكون مجلس الأمن أداة للمصادقة على القرارات الأمريكية، وإما أن يتم تعطيله وشله بالفيتو، فمن ناحية لم يتمكن مجلس الأمن من إصدار قرارات واضحة تنهي أو تعمل على إنهاء الحرب الروسية بسبب الفيتو الروسي والصيني، فيما عجز أيضًا عن إصدار قرارات ملزمة توقف الحرب الإسرائيلية على غزة بفعل الفيتو الأمريكي، وظلت الإدانات تتكرر دون جدوى، ما أظهر حجم الهيمنة الأمريكية على الأمم المتحدة، لكنها بالمقابل لم تستطع تمرير أي قرارات لصالحها في الأزمة الأوكرانية أو السورية. ومعروف أن الصراع بين القوى الخمس الكبرى يشل مجلس الأمن، ويفقده أي آلية لحفظ السلم. والواقع أن مصير المنظمة الأممية مرتبط بتطورات الصراع بين القوى الكبرى وإعادة توزيع القوة، فقد أصبحت منظمات دولية كشنغهاي وبريكس يشكلان مرتكزات للنظام الدولي (الجديد) بدلًا من الأمم المتحدة التي دخلت مرحلة موت سريري.
وعليه، فإن ما تشهده السياسة الدولية من أزمات وتغيرات دراماتيكية يدلل على أن النظام الدولي (أحادي القطبية) قد تصدع وسقط، ونحن بانتظار تبلور نظام دولي متعدد الأقطاب، يوازن بين مصالح القوى العظمى حول العالم؛ فالصراع بين روسيا والناتو في أوكرانيا كشف عن تغيرات في المعادلة الدولية، وبغض النظر عن شكل وطبيعة النظام الدولي الذي يتشكل حالياً، إلا أن نظام الهيمنة الأمريكية (الأحادي) لم يعد يتناسب مع التغيرات في مواقف القوى الفاعلة في المنظومة الدولية.
فقد جرَّت الولايات المتحدة روسيا للحرب في أوكرانيا، بهدف استعادة سيطرتها على أوروبا، وتوريط الجيش الروسي في حرب استنزاف طويلة الأمد. ويرى مراقبون أن دولًا كالسعودية والإمارات والجزائر تنفتح أكثر على روسيا والصين، وتعيد صياغة علاقاتها مع واشنطن ببراغماتية عالية، وذلك من مبدأ المصالح المشتركة وعدم الإضرار بمصالحها، فالرسالة مفادها "لن نأخذ مصالح الولايات المتحدة بالاعتبار ونضر بمصالحنا".
وفي هذه المعادلة الدولية الجديدة تراجع معيار القوة العسكرية لصالح القوة الاقتصادية؛ ما أبرز الأهمية الجيوستراتيجية للمنطقة العربية والخليجية؛ بما تملكه من موارد وممرات مائية، ما يمنحها الفرصة لتحسين موقعها الجيوبولتيكي على خارطة السياسة الدولية واستغلال الفرصة التاريخية للتنصل من التدخلات الأمريكية في شؤون الدول العربية، والبحث عن المصالح الوطنية والعربية، في ظل التحول في النظام الدولي الذي برز مع الأزمة الأوكرانية، والإعلان رسميًا عن موت الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي وتشكل نظامًا دوليًا متعدد الأقطاب، في ظل تصاعد الصراع الدولي الذي بدأ من أوكرانيا ولا يعرف أين سينتهي.