array(1) { [0]=> object(stdClass)#13013 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 197

لا يحق لروسيا تغيير وضع الأراضي المحتلة أو بالاستفتاءات ولا يمكن تغيير السيادة والحرب مستمرة

الإثنين، 29 نيسان/أبريل 2024

لم يعد القانون الدولي بقواعده ومبادئه قادرًا على حماية السيادة من تحرشات الدول، ذلك أن تحولات النظام الدولي في الميادين الاقتصادية، والسياسية، والعسكرية أدت إلى انحسار وتآكل فكرة سيادة الدولة الوطنية مع هذه التغيرات الهامة التي شهدها النظام الدولي.

أثارت الحرب الروسية / الأوكرانية مجموعة من النقاشات السياسية والأكاديمية حول مدى احترام مبادئ القانون الدولي فيما يتعلق بحماية سيادة الدول ووحدتها، فالأمر يتعلق بوضع اليد بالقوة على أراضي دولة مستقلة وذات سيادة وعضو في الأمم المتحدة، وإنتاج مسارات جديدة لاستنساخ تجارب التفكيك الإقليمي للدول، وذلك في تجاوز لعدد من مبادئ القانون الدولي المتعلقة بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والامتناع عن استخدام القوة أو مجرد التهديد بها في العلاقات الدولية، وتسوية المنازعات بشكل سلمي

 

شهدت الأقاليم الانفصالية الموالية لروسيا في منطقتي دونباس -دونيتسك ولوغانسك -في شرق أوكرانيا، وخيرسون وزابوروجيا في جنوبها، تنظيم استفتاءات حول الانضمام إلى روسيا بين 23 و27 سبتمبر 2022م، تأتي هذه الخطوة لتُحدث تصعيدًا كبيرًا في الصراع وتُأزم الموقف الروسي لدى الغرب. وفي الوقت ذاته، تُفكر موسكو في خطواتها التالية في هذا الصراع المستمر منذ قرابة سبعة أشهر، والذي تسبب في أخطر مواجهة مع الغرب منذ أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962م.

 

 تدفع أوكرانيا، مدعومة من الكثرة الكاثرة من الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة، بأن الضم غير الشرعي لعدد من أقاليمها بواسطة روسيا الفيدرالية يُعد انتهاكًا لعدد من مبادئ ومقاصد منظمة الأمم المتحدة. كما ترى أوكرانيا أنّ هذا الضم هو نتاج باطل للعدوان والاحتلال العسكري الروسي لهذه الأقاليم التي ضمتها روسيا الفيدرالية. في المقابل تزعم روسيا الفيدرالية وتدعمها حفنة قليلة من الدول، بشرعية الاستفتاءات التي أجريت في الأقاليم المشار إليها، وتستند روسيا الفيدرالية في ذلك علي حق الشعوب في تقرير مصيرها.

 

أهداف الدراسة:

 تسعى الدراسة إلى إبراز أهم المخاطر التي تواجه الدول في الحفاظ على سيادتها في ظل جمود قواعد القانون الدولي، وعدم قدرتها على حماية السلامة الإقليمية للدول في مواجهة تدخلات الدول القوية، وهو ما يبدو جليا من الأزمة الروسية الأوكرانية التي ستكون لها انعكاسات خطيرة على السلامة الإقليمية للدول على صعيد أوربا والعالم، فهي تثير حساسية لدى القوميات، وتشرعن الانفصال عن الدول، الذي يهدد استقرار النظام الدولي برمته.

إشكالية الدراسة:

إن السؤال الرئيسي في هذه الدراسة هو: كيف يمكن الحفاظ على السيادة الوطنية للدول وسلامتها الإقليمية في ظل قصور قواعد القانون الدولي وعجزها عن نصرة الدول في مواجهة التدخلات غير المشروعة؟ وكيف يمكن المواءمة بين حق الشعوب في تقرير مصيرها، وحق الدول في الحفاظ على سيادتها ووحدتها وسلامتها الإقليمية ؟

تقسيم الدراسة:

أولاً: الخلفيات التاريخية والقومية لضم الأقاليم الأوكرانية.

ثانياً: الجدل الفقهي والقانوني بخصوص مسألة ضم روسيا للأقاليم الأوكرانية.

ثالثاً: عجز الأمم المتحدة عن تسوية الصراع.

رابعاً: مستقبل وتداعيات الصراع.

 

أولاً: الخلفيات التاريخية والقومية لضم الأقاليم الأوكرانية

يمكن الزعم بأن واحدة من أهم البواعث التي أسست روسيا الفيدرالية لضمها الأقاليم الانفصالية الأوكرانية كانت رغبة الرئيس "فلاديمير بوتين" في إعادة تعبئة الداخل الروسي، وذلك من خلال:

أولاً: تشكيل الصورة الذهنية لدى شعوب الكتلة الشرقية، وتصدير صورة "البطل القومي" وسيناريو "المُنتصر" الذي يعيد أمجاد الاتحاد السوفيتي السابق ويضم الأراضي التي يروقها ملكًا لروسيا.

ثانياً: العمل على تسويق الضم كانتصار حربي في ظل التقدم الأوكراني المؤيد من الغرب العدو الدود لروسيا الفيدرالية.

 استفتاءات الضم

يعكس تنظيم مثل هذه الاستفتاءات التي جرت في الأقاليم الأوكرانية حقيقة أن موسكو لم تعد مهتمة بالتفاوض حول إنهاء الحرب الأوكرانية، حتى بعد إعلانها التعبئة الجزئية، بل إنها ترى أنها قادرة على تثبيت وجودها القانوني والفعلي في هذه المناطق اعتمادًا على الأقليات الناطقة باللغة الروسية فيها، وبقوة السلاح.

وفي هذا الإطار، شدد الرئيس بوتين يوم 21 سبتمبر 2022م، على ضمان إجراء الاستفتاءات في المناطق الأوكرانية التي تريد الانضمام إلى روسيا.  ونُظمت هذه الاستفتاءات في دونيتسك ولوغانسك، الواقعتين في منطقة دونباس، واللتين اعترف بوتين باستقلالهما قبيل إطلاق هجومه على أوكرانيا في 24 فبراير عام 2022م، وتأتي هذه الاستفتاءات بعد أن تمكنت القوات الأوكرانية من استعادة السيطرة على مساحات شاسعة في الشمال الشرقي في هجوم مضاد هو الأكبر منذ بدء الهجوم الروسي في 24 فبراير 2022م.

تطرح الأزمة الأوكرانية على صعيد منهجية العلاقات الدولية، إشكالية "الأقلية الذريعة" لتدخل دولة في شؤون دولة أخرى، أو "الأقلية الأداة" لممارسة الضغوط والابتزاز على السلطات القائمة في دولة ما في آلية تجعل من هذه الأقلية عنصر مساومة في العلاقات بين دول متجاورة. فبعد أن تورطت روسيا في انفصال ترانسنيستريا وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية 2008م، والقرم 2014م، تحاول روسيا أيضا تكرار ذات السيناريو الآن في خيرسون، وأينما تكون هناك مناطق عرقية روسية واقعة ضمن جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق ليست على استعداد للانصياع لروسيا، سوف تكون هناك حركات انفصالية قد تنفصل بذاتها -كما هو الحال في مولدوفا وجورجيا والآن أوكرانيا-وسوف تقدم روسيا الدعم اللازم لها.

 

ثانياً: الجدل الفقهي والقانوني لمسألة ضم روسيا للأقاليم الأوكرانية

 

تبنى شرعية أي دولة على الإرادة الحرة لسكان أرضها في تأسيسها، وعلى اعتبارهم الحر لها دولتهم. ولا تستند الدولة إلى معطيات تاريخية أو إثنية فقط، فلو اعتمدنا هذه المعايير وحدها في الحكم على حق الدول بالوجود، لفقدت غالبية دول العالم المعاصر هذا الحق!

 

وهكذا، يمكن القول بشكل جازم إن حق دولة أوكرانيا في الوجود وشرعية وجودها بكامل حدودها لا يقومان أبدًا على ما كان عليه حالها في روسيا القيصرية، أو حتى في الاتحاد السوفييتي السابق، بل على إرادة سكانها الحاليين في أن تكون هي دولتهم، وعلى اعترافهم بها كدولة لهم. وينطبق هذا على جميع هؤلاء السكان في الشرق والغرب، حيث صوت 92.3٪ منهم بالموافقة على قانون إعلان استقلال أوكرانيا الذي أُجري في 1 ديسمبر 1991م. ولم تظهر بينهم أي مطالبات قبل عام 2014م، بالانفصال عن أوكرانيا أو استبدالها بدولة أخرى، ولم تجر بينهم صراعات قومية أو مناطقية، وهذه شرعية كافية تمامًا لدولة أوكرانيا.

حري بنا أن نشير وفي ذات السياق، إن المجتمع الدولي، وبالأخص الدول الكبرى، ينتهج، على ما يبدو، سياسة الكيل بمكيالين. فقد سمعنا الرئيس الأمريكي جو بايدن ووزير الخارجية الأمريكي أنتوني وزعماء الغرب ينتقدون الموقف الروسي ويؤكدون على ضرورة احترام القانون الدولي. ونحن نعلم أن بلدانهم لم تحترم القانون الدولي تجاه القضية الفلسطينية، ولم تطبقه أو تقبله طوال ستين عامًا. يمكننا القول إن عملية التفتت الإقليمي لدول ذات سيادة أصبحت شيئا مألوفا في ظل المتغيرات الدولية الراهنة، خصوصا مع انكشاف السيادة الوطنية وبروز فواعل جديدة من غير الدول، كما أن الدويلات المجهرية التي تفرزها النزعات الانفصالية في ظل المخاض المرتبط بتطبيق النظام العالمي الجديد سوف تتزايد.

كان فقه القانون الدولي -وإلى زمن قريب-يعتبر أن القانون الوضعي لا يقبل بالحق في الانفصال، فلقد كلفت عصبة الأمم سنة 1920م، لجنة من الحقوقيين بإنجاز تقرير حول الجوانب القانونية لجزر "ألاندIslands  Aaland" -  وهي جزر صغيرة تقـع بـين فنلنـدا والسويد وتخضع لسـيادة فنلنـدا، وانتهت اللجنة في تقريرها إلى أن "القانون الوضعي لا يعترف لفئات من الشعب بالحق في الانفصال عن الدولة التي ينتمون إليها، وذلك بمجرد أن لهم الرغبة في ذلك، كما أنه لا يعطي الحق لدول أخرى في أن تدعم تلك المطالبة"

وقد سار على نفس النهج الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عندما صرح بموقف الأمم المتحدة والقانون الدولي من مسألة ضم المناطق الأوكرانية إلى الاتحاد الروسي، حيث تطرق إلى ما يسمى بـ "الاستفتاءات" في المناطق المحتلة التي أجريت خلال نزاع مسلح نشط في مناطق خاضعة للاحتلال الروسي، وخارج الإطار القانوني والدستوري لأوكرانيا.

يرى اتجاه كبير من ثقات الفقهاء أن حق تقرير المصير المنصوص عليه في المواثيق الدولية متعلق بحرية الشعوب التي تعرضت لاحتلال خارجي وهو ما يسمى بحق تقرير المصير الخارجي، ولا يتعلق أبدا بحق تقرير المصير الداخلي الذي يرتبط بحركات وجماعات انفصالية داخل الدولة من أجل إقامة دولة مستقلة.

لكن ما برحت الجماعة الدولية تكيل بالمكيالين في تعاطيها مع حق الشعوب في تقرير مصيرها، لكن من البين أنها اليوم أمام إشكالية صعبة كيف يمكن رسم الحدود بين القبول الدولي بالانفصال ومساندة الحلول في إطار الدولة القائمة. لا يمكن انتهاك حق الدول في الحفاظ على وحدتها وبسط سيادتها على كامل ترابها لأنه حق ثابت لا يزول إلا بزوال الدولة المعنية به أو انقراض مفهوم الدولة.

 

وترتبًا على ذلك، فقد خلص جانب من الفقه القانوني الدولي -وعن حق- إلى القول بأن حق تقرير المصير، كحق جماعي من حقوق الإنسان، ينطبق فقط على حالة الشعوب الخاضعة للاحتلال أو السيطرة الاستعمارية؛ وبالتالي لا يجوز لأي جماعة تعيش داخل دولة ما الاحتجاج بهذا الحق؛ وعليه لا يكون أمام هذه الجماعة -في حال تعرضها لانتهاك حقوقها بشكل ممنهج ومتعمد- سوى العمل على كفالة هذه الحقوق من خلال مدخل حقوق الإنسان، ومن منطلق وطني في المقام الأول. يثير تأييد ودعم روسيا الفيدرالية حق تقرير المصير للأقليات الروسية في دونيتسك ولوجانسك السؤال الشرعي عن موقف روسيا في المقابل تجاه مطالب شعوب القوقاز (الشركس، الداغستان، الشيشان)، التي تطالب بهذا الحق وقد حمل بعضها السلاح ضد السلطة الروسية لتحقيقه. فهل تقبل روسيا الفيدرالية منح الاستقلال للمناطق التترية أو الشركسية التابعة اليوم لروسيا، وهي مناطق تقطنها حتى اليوم أكثريات من سكانها الأصليين، وهم ليسوا روسًا اثنيا، وكانت لديهم فيما مضى خصوصية قبل أن تحتلها روسيا القيصرية؟

يُعد الإشكال القانوني الأبرز الذي يُطرح في هذا الصدد هو مدى مصداقية وشرعية هذه "الاستشارة الشعبية" التي تمت تحت صوت القنابل والرصاص والطائرات، وذلك ربما في تجاوز واضح لإرادة وسيادة دولة مستقلة هي أوكرانيا، ولضوابطها الدستورية واختياراتها السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية.

ذهب جانب من الفقه القانوني الدولي إلى القول بأن انفصال الأقاليم الأربعة عن أوكرانيا وانضمامها إلى روسيا هو مشروع في نظر القانون الدولي، وفق أمور واقعية وليس قانونية فقط، إذ لم يكن أمام تلك الأقاليم الأربعة غير الانفصال للتخلص من حكم أوكرانيا لها، وعلى الرغم من أن القانون الدولي لا يلزم الدول بالاعتراف بالاستفتاءات وما أعقبها من إجراءات تتعلق بانضمام الأقاليم الأربعة للسيادة الروسية، فإن عدم اعتراف أي دولة بهذا الواقع الجديد لا يعني عدم مشروعيته، لكنه فقط لا يرتب آثارا قانونية تجاهها، وربما تلك من الأمور التي دفعت محكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري المتعلق بكوسوفو إلى القول بأنه ليس هناك ما يمنع إعلان استقلال كوسوفو بصورة مطلقة.

أعلنت روسيا ضم مناطق أوكرانية تحتلها، بشكل رسمي متجاهلة المعارضة الدولية والعقوبات الغربية، وأشهرت حق النقض "الفيتو" في وجه مشروع قرار يدين الضم، وبموجب القانون الدولي، فالضم هو الاستيلاء على الأراضي بالقوة وهو انتهاك صارخ للقانون الدولي؛ وعلى هذا النحو لا يمكن أن يكون له أي تأثير على الوضع القانوني للإقليم، الذي لا يزال محتلا بحكم القانون.

من جهتها أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا يوم 12 أكتوبر 2022م، بتصويت أغلبية الدول الأعضاء لصالحه، يدعو الدول إلى عدم الاعتراف بالمناطق الأربع في أوكرانيا التي تطالب بها روسيا، في أعقاب ما يُسمّى بالاستفتاءات التي أجريت في أواخر الشهر سبتمبر 2022، ويطالب القرار موسكو بالتراجع عن مسار "محاولتها الضم غير القانوني" للمناطق الأوكرانية.

وجاءت النتائج كالآتي: 143 صوتا لصالح القرار، مع معارضة خمس دول (هي بيلاروس، وروسيا، وسوريا، نيكاراغوا، جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية) وامتناع 35 عن التصويت. وقد تم تقديم مشروع القرار المعنون "السلامة الإقليمية لأوكرانيا: الدفاع عن مبادئ ميثاق الأمم المتحدة" خلال الجلسة الاستثنائية الطارئة الحادية عشرة في الجمعية العامة بعد أن فشل مجلس الأمن في 30 سبتمبر 2022م، في اتخاذ قرار يهدف إلى إدانة استفتاءات الاتحاد الروسي التي سبقت إعلان موسكو ضمّ لوهانسك، ودونيتسك، وخيرسون، وزابوريجيا.

نافل القول، مثل هذه السياسات التي تتبعها روسيا لا تغير الوضع القانوني للأراضي الأوكرانية المحتلة بموجب القانون الدولي ووضع سكانها الواقعين تحت الاحتلال، ولا تلغي مسؤوليات روسيا كسلطة احتلال. لقد تم تقنين تعريف الاحتلال والتزامات سلطة الاحتلال بادئ الأمر في نهاية القرن التاسع عشر، والتعريف الذي لا يزال معمولا به هو التعريف الذي تضمنته الأنظمة المتعلقة بقوانين وأعراف الحرب البرية الملحقة باتفاقية لاهاي الرابعة المبرمة في 18 أغسطس1907م.

أوضح القانون الدولي الإنساني المعاصر حقوق وواجبات قوات الاحتلال، وحقوق سكان أرض محتلة، وقواعد إدارة هذه الأراضي ضمن (اتفاقية جنيف 4، المواد 47-78، والبروتوكول الأول لاتفاقيات جينيف المواد 63-69 و72-79). وتبعا لذلك، فلا يحق لدولة الاحتلال التي هي (روسيا الاتحادية)، فتغيير الوضع القانوني للأراضي المحتلة التي قامت بقضمها بداية من القرم عام 2014 م، إلى الفترة الحالية التي تشهد تنظيم استفتاءات صورية لا محل لها من القانون الدولي، وعلى أي حال لا يمكن تغيير السيادة على الإقليم من دولة إلى أخرى والحرب لاتزال مستمرة.

لا تتبع الدول في الممارسة العملية دائما أحكام القانون الدولي، وقد تعترف الدول الأخرى لاحقا بصحة هذا الضم. ويتمثل أحد الأمثلة على ذلك في ضم الهند لـ "جوا" في عام 1961م. وفي هذه الحالة، فرض انتصار الهند في الحرب ضد البرتغال وقائع على الأرض، ولم تتمكن الدولة المهزومة، وهي في هذه الحالة البرتغال، من عكسها، فلم تكن لديها القدرة العسكرية لاستعادة الأراضي من الهند، ولم تكن كذلك تتمتع بدعم سياسي كاف للقيام بعمل عسكري لاستعادة "جوا"، حيث ساهم الجو المناهض للاستعمار والمد التحرري السائد آنذاك، حيث اعترف مجلس الأمن بعد ذلك بمطالب الهند وأدان سياسة البرتغال في أفريقيا.

ثالثاً: عجز الأمم المتحدة عن تسوية الصراع

 

ليس من قبيل المبالغة أن نزعم إنه منذ عام 1945م، لم يواجه النظام القانوني الدولي تهديدات وجودية مثل تلك التي تراكمت منذ بداية عشرينيات القرن الحالي، بعضها فوري، والبعض الآخر ينظر إلى الأمر على المدى المتوسط أو الطويل، ويعد العدوان الروسي على أوكرانيا هو الأكثر إثارة، لكنه ليس بالضرورة الأكثر خطورة إذا فكرنا فيه مع مرور الوقت. فالمُثُل النبيلة التي تم الترويج لها في عامي 1919 و1928 و1945م، والتي تدعو إلى "حظر الحرب"، لم تنجح بأي حال من الأحوال في القضاء على النزاعات المسلحة، سواء كانت دولية أو داخلية.

 ومهما كان العدوان الروسي ضد أوكرانيا مذهلاً ورفيع المستوى، فإنه ليس غير مسبوق على الإطلاق، فما قامت به الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ضد العراق في العام 2003م، كان حدثاً حديثاً ومؤسفاً.

ويؤدي استهزاء القوى العظمى، على وجه الخصوص، بالقانون الدولي وميثاق منظمة الأمم المتحدة إلى اضطرابات كبيرة في محتوى وترتيب المبادئ والقواعد القانونية الدولية.  يجادل البعض أن العجز الأممي الَبيّن للمنظمة العتيدة في تسوية الصراع المسلح المحتدم بين العدوين اللدودين من شأنه أن يشكك شعوب الأمم المتحدة في مصداقية بل وجدوى منظمة الأمم المتحدة، ففي ثلاثينيات القرن العشرين، فشلت عصبة الأمم (1920-1946م) في وقف ضَم إثيوبيا إلى مملكة إيطاليا، وهو ما كان سببا رئيسيا في اندثار المنظمة بعد حين. 

والسؤال المطروح الآن هل سيكون إخفاق الأمم المتحدة في وقف القتال في أوكرانيا سببًا في تفكُك مؤسسة عالمية للمرة الثانية؟

"لقد تم تحذير الأمم المتحدة من عواقب عَدَم وقْف القتال": كانت هذه هي كلمات الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عندما خاطب مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في 5 أبريل 2022م "نحن نتعامل مع دولة [روسيا] تُحَوِّل حَقّ النَقْض في مجلس الأمن الدولي إلى حق مُكتسب وحَق للقتل، وهذا يقوض بُنية الأمن العالمي بِرُمتها … وإذا ما استمر الأمر على هذا المنوال… يمكن حَلّ الأمم المتحدة ببساطة".

بعد مضي 15 شهرًا على غزو القوات المسلحة الروسية لأوكرانيا، لم تتمكن الأمم المتحدة من وضع حدٍّ للقتال، أو حتى التوسط في وقف إطلاق النار. وهي في الواقع لم تفعل أكثر من شَجْب الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان، والتحسُّر على الخروق الجسيمة للقانون الإنساني الدولي. لقد حاولت عصبة الأمم فَرض عقوبات اقتصادية على إيطاليا، لكنها لم توقف الغزو الإيطالي لإثيوبيا، ويقارن البعض بين المشهد الإيطالي -الإثيوبي، والمشهد الروسي -الأوكراني.

في حقبة العصبة، كانت هناك تحذيرات لعصبة الأمم بشأن مستقبلها، فبعد ضم إيطاليا [أحد الأعضاء الأربعة الدائمين في المجلس التنفيذي لعصبة الأمم] لإثيوبيا في أكتوبر 1935م، جاء إمبراطورها هيلا سيلاسي إلى جنيف لإلقاء خطاب تاريخي في جمعية عصبة الأمم. وخلال خطابه، أكد سيلاسي على أهمية القرار الذي تواجهه الدول الأعضاء، وقال إن آثاره ستكون أكبر من مجرد دَعم بلاده أو عَدَم دَعمها. "أنا أؤكد أن المشكلة المعروضة على المجلس التنفيذي للعصبة لا تتعلق بمجرد إيجاد حل للعدوان الإيطالي، لكن بالأمن الجماعي بأكمله، إنه يتعلق بوجود عصبة الأمم ذاتها".

لكن تحذيرات سيلاسي لم تمنع الدول الأعضاء من التصويت لصالح إنهاء العقوبات المفروضة على إيطاليا منتصف عام 1937م. وقد شكَّل هذا القرار ضربة قاضية للعصبة، وعلَّق رئيس الوزراء البريطاني السابق ونستون تشرشل، في محاضرته أمام جامعة زيورخ في 19 سبتمبر عام 1946 م: بأن عصبة الأمم "لم تفشل بسبب مبادئها أو مفاهيمها، ولكنها فشلت لأن الدول التي أنشأت تلك المبادئ تَخَلَّت عنها، ولأن حكومات تلك الدول لم تجرؤ على مواجهة الحقائق والتصرُّف بينما كان لا يزال هناك بعض الوقت".

يمكن مقارنة الحرب الإيطالية الإثيوبية اليوم بالصراع في أوكرانيا، وعلى الرغم صعوبة المقارنات التاريخية، لا يزال بالإمكان عقد مقارنات بين إخفاقات عصبة الأمم ومنظمة الأمم المتحدة في وقف العدوان، فبغية تجنب المواجهة المباشرة مع إيطاليا، اختارت القوى العظمى فَرض عقوبات خفيفة لا يمكن أن تكون فعالة إلا على المدى الطويل.

أظهر هذا المنظور لتاريخ عصبة الأمم بالفعل مدى صعوبة التصرف عندما تكون قوة عظمى متورطة بشكل مباشر في نزاع ما. بالمقارنة، أدى حق النقض الروسي الحالي في مجلس الأمن- بالإضافة إلى عدم وجود قوة عسكرية دائمة تابعة للأمم المتحدة- إلى تكرار المشاكل المؤسسية للمنظمة الدولية. بالمثل، لم يكن هناك في الآونة الأخيرة رد فعل يُذكر على حرب روسيا مع جورجيا في عام 2008م، أو ضمّها لِشُبه جزيرة القرم في عام 2014م، خشية أن يؤدي عَزل روسيا إلى تقريبها من الصين، وهو ما ثبت صحته لاحقاً.

رابعاً: مستقبل  الصراع

في حين أنه من المرجح أن تستمر الحرب طوال عام 2024م، إلا أنها لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية. كانت حروب العصر الصناعي قد دفعت أجزاء كبيرة، أو في بعض الحالات اقتصادات بأكملها، نحو إنتاج المواد الحربية باعتبارها مسائل ذات أولوية. وقد تضاعفت ميزانية الدفاع الروسية ثلاث مرات منذ عام 2021م، وستستهلك 30 % من الإنفاق الحكومي العام المقبل. وهذا من شأنه أن يجعل الحرب في أوكرانيا أطول وأكثر إيلاماً من أي شيء عرفته أوروبا منذ منتصف القرن الماضي. وسوف يثبت العام المقبل ما إذا كانت روسيا ــ ومؤيدوها في كوريا الشمالية وإيران، أم أوكرانيا ــ وداعموها الغربيون ــ الأكثر قدرة واستعداداً لتلبية المطالب الشرهة لحرب العصر الصناعي.

 

ومن المرجح أن تحاول كييف أيضاً إحداث المزيد من المفاجآت العسكرية للإخلال بتوازن الغزاة الروس في بعض المناطق. وتفتقر روسيا إلى المعدات والقوى العاملة المدربة اللازمة لشن هجوم استراتيجي حتى ربيع عام 2025م، على أقرب تقدير.

 

ومن ناحية أخرى، تحتاج أوكرانيا إلى التمويل والدعم العسكري الغربيين لإبقائها في الحرب خلال العام المقبل 2025م، في حين تعمل هي أيضاً على بناء قوتها الجوهرية لتهيئة الظروف الملائمة لسلسلة من الهجمات لتحرير أجزاء من أراضيها في المستقبل. إن حرب العصر الصناعي هي صراع بين المجتمعات، وما يحدث في ساحة المعركة يصبح في نهاية المطاف مجرد أعراض لهذا الصراع.

 

ربما سيتم تحديد المسار العسكري لهذه الحرب في عام 2024م، في موسكو، وكييف، وواشنطن، وبروكسل، وبكين، وطهران، وبيونغ يانغ أكثر من تحديده في أفدييفكا، وتوكماك، وكراماتورسك، أو أي من ساحات القتال على طول الخطوط الأمامية. تفتقر روسيا إلى القدرة الحاسمة التي تمكنها من اجتياح أوكرانيا، وسوف تبذل كل ما في وسعها للاحتفاظ بما تحتله حالياً، مستغلة الوقت لتعزيز دفاعاتها في حين تأمل أن يفقد الغرب الإرادة لمواصلة دعم أوكرانيا.

 

في المقابل لن تتوقف أوكرانيا، فهي تخوض معركة من أجل بقائها وتدرك ما ستفعله روسيا إذا توقفت عن ذلك، وذلك من أجله ستزداد وتيرة المزيد من الدول الأوروبية في ضوء المخاوف من ضعف عزم الولايات المتحدة. وبحلول أوائل الصيف، ستكون أوكرانيا قادرة على استخدام طائرات مقاتلة أمريكية الصنع من طراز اف 16 لأول مرة، وتأمل أن يؤدي ذلك إلى تحسين قدرتها على مواجهة الطائرات الروسية وتعزيز دفاعاتها الجوية.

 

وتعكس الخطط العسكرية الأوكرانية أيضا الاعتبارات الجيوسياسية، حيث تابع الكثيرون في كييف بقلق متزايد خلال الأشهر الأخيرة قضية استمرار المساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا والتي باتت عالقةً في السياسة الأميركية الداخلية ، وبالنظر لاقتراب الولايات المتحدة من دخول عام الانتخابات، يخشى العديد من الأوكرانيين الآن مِن تأجيل المزيد من شحنات الأسلحة من واشنطن أو تعطيلها.

 

العامل الرئيسي الآخر الذي سيحدّد مسار الحرب سيكون الأولويات السياسية لروسيا، فقد يختار الكرملين البقاء في موقف دفاعي والتركيز على الاحتفاظ بالأراضي التي يستولي عليها حاليا، ومن الممكن لبوتين أن يأمر قادته باستئناف العمليات الهجومية واسعة النطاق، بهدف استكمال السيطرة على المقاطعات الأوكرانية. في الوقت الحاضر، يبدو أنّ الاستراتيجية الدفاعية تلبّي الهدف السياسي الرئيسي لروسيا، وهو تجميد الصراع على طول الخطوط الأمامية الحالية، كما أنّ غياب أي اختراقات أوكرانية كبيرة خلال الهجوم المضاد عزّز بالفعل تصورات الجمود، وأدى إلى دعوات دولية متزايدة للعودة إلى طاولة المفاوضات.

 

إذا تمكّنت روسيا من تكرار هذا النجاح في عام 2024م، فستجد أوكرانيا صعوبة أكبر في الحفاظ على الدعم الدولي لمزيد من العمليات الهجومية واسعة النطاق. لا أوكرانيا أو روسيا مستعدّة حاليا للتفاوض، وبدلا من ذلك، لا يزال الجانبان ملتزمين بقرار عسكري ويتطلّعان بالفعل إلى القتال خلال العام المقبل.

 

خاتمة:

إن الإقرار للأقليات بحق الانفصال وإقامة كيانات صغيرة فيه من التفتت للمجتمع الدولي ما يؤدي إلى عدم الاستقرار وتهديد النظام القانوني الدولي بالانهيار، وبالتالي تهديد السلم والأمن الدوليين، ولما كانت الأقليات في هذا العالم وفقًا للاتفاقيات الدولية قد حظيت بحقوقها وتوفرت لها الحماية القانونية اللازمة، فإنه وفقًا لمقتضيات استقرار القواعد القانونية في النظام القانوني الدولي، أن لا يسمح لهذه الأقليات بتجاوز هذه الحقوق والحماية المقررة لها، بحيث لا يفسر حق تقرير المصير تفسيرًا واسعًا،  بل تعتبر هذا الحق من الحقوق التي أقرت للشعوب الواقعة تحت الحكم الاستعماري.

ولا يمـنح القـانون الـدولي الحـق للمجموعات العرقية أو اللغوية أو الدينية في الانفـصال عـن أراضـي الدولـة الـتي تـشكل جـزءًا منها، بدون موافقة تلـك الدولـة، بمجـرد التعـبير عـن رغبتـها في القيـام بـذلك .ويـؤدي القبـول بغـير ذلـك، والـسماح لأي مجموعـة عرقيـة أو لغويـة أو دينيـة بـإعلان الاسـتقلال والانفـصال عن إقليم الدولة التي تشكل جزءًا منها، خارج سياق إنهاء الاستعمار، إلى خلق سـابقة خطـيرة جدًا، بل إن ذلك، في واقـع الأمـر، إنمـا يرقـى إلى كونـه إعلانـًا لكـل الجماعـات المنـشقة كافـة في سـائر أرجـاء العـالم بـأن لهـا الحريـة في الالتفـاف علـى القـانون الـدولي بـأن تقـوم، ببـساطة، بالتصرف بطريقة معينـة وصـياغة إعـلان اسـتقلال مـن جانـب واحـد .

مقالات لنفس الكاتب