array(1) { [0]=> object(stdClass)#13020 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 197

الحرب الروسية-الأوكرانية وصعود تكتل " الشرق العالمي"

الإثنين، 29 نيسان/أبريل 2024

أفضت الحرب الضارية بين روسيا وأوكرانيا إلى تدمير البنية التحتية الأوكرانية، وعزل روسيا عن الغرب، وتغيير ملامح النظام العالمي. ومع صعود نجم قوى عالمية غير غربية، استطاعت دول مثل الصين، وروسيا، والهند، وكازاخستان، وإيران، وتركيا، والمملكة العربية السعودية ودول أخرى من خارج المعسكر الغربي إعادة اكتشاف روابطها التاريخية والموروثات الخاصة بها، وتوطيد العلاقات الاقتصادية وروابط الطاقة فيما بينها. ما تقوم به هذه الدول حاليًا هو إعادة تجميع صفوفها، ومحاولة تحقيق أقصى استفادة من المزايا الجغرافية الخاصة بكل منها، إلى جانب تنفيذ مخطط استراتيجي جديد يأتي في إطار منظومة "الشرق العالمي" الصاعد، الذي يعد بمثابة المنطقة الرمادية بين الشمال العالمي والجنوب العالمي.

  • الخلفية التاريخية لتكتل "الشرق العالمي"

يعتبر صعود تجمع "الشرق العالمي" نتاجًا للحرب الروسية-الأوكرانية. علاوة على ذلك، تساعد الثورة الصناعية الثالثة، مُمثلة في قطاع تكنولوجيا المعلومات، في تمهيد الطريق إلى اندلاع ثورة صناعية رابعة تندمج فيها العوالم الفيزيائية، والرقمية، والبيولوجية. ويمتد خلالها نطاق المنافسة بين القوى العظمى من الجغرافيا السياسية إلى سياسة الهوية الوطنية. وقد أصبحت دول مثل روسيا، وكازاخستان، وإيران، وتركيا، والمملكة العربية السعودية التي قد لا تعتبر دولًا آسيوية خالصة، تطلع الآن شرقًا مُعيدة اكتشاف هويتها الآسيوية.

في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2022م، سارعت الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، ودول الاتحاد الأوروبي من أجل معاقبة روسيا بشكل جماعي، وبالتالي، سقطت بالتبعية استراتيجية موسكو بشأن الحفاظ على التوازن بين الشرق والغرب. فإن استراتيجية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للتركيز على الشرق هي تطوير سيبيريا، والشرق الأقصى الروسي، واستخدام ديناميكية شرق آسيا من أجل تحفيز هذا التطور. وفي بيئة سريعة التغير، تنظر موسكو إلى بكين كمصدر للأموال، والاستثمارات، وكذلك التكنولوجيا المتقدمة. فإن التحديثات، التي كان لها نموذج غربي فقط، أصبح لها الآن إصدارات متنوعة داخل الشرق العالمي. وفي الوقت الذي كان تدفق موارد الطاقة، والسلع، والأفراد يتم في الغالب بين القوى الغربية وغير الغربية خلال العصور القديمة، تحول الآن إلى داخل بلدان "الشرق العالمي".

وبرغم اختلاف الأنظمة السياسية والاقتصادية لدول "الشرق العالمي" والموارد التي تتمتع بها كل دولة، إلا أن جميعها حريصة على تعريف نفسها جغرافياً باعتبارها دول شرقية ضمن مخيلتها الثقافية والحضارية. كذلك لم تعد بلدان "الشرق العالمي" الممتدة من الصين إلى الهند، ومن كازاخستان إلى تركيا، ومن روسيا إلى المملكة العربية السعودية، "مواطنين من الدرجة الثانية"، بل أضحوا لاعبين رئيسيين على الساحة الآسيوية.

بطبيعة الحال، ينتمي "الشرق" والغرب" إلى عالمين مُختلفين. حيث يعتبر "الغرب العالمي" تكتلاً سياسيًا يعرف بمبادئه وانتماءاته السياسية بقدر ما يحدده موقعه الجغرافي. ويُشكل" الغرب" -الذي تمثله أوروبا وأمريكا الشمالية -نقيضًا صارخًا "للشرق العالمي" الذي تهيمن عليه دول الشرق سياسيًا وثقافيًا. فالأول يدافع عن قيم الفردية، والحرية، والديمقراطية، بينما يحتضن الأخير الجماعية، والنظام، والعدالة. ينتمي الأول إلى العالم المسيحي والبلدان الرأسمالية المتقدمة، في حين أن غالبية الشرق العالمي ينتمي إلى دول متعددة الأعراق والحضارات والتي تفتخر بتاريخ طويل وثقافة رائعة -الإسلام، والهندوسية، والبوذية، والأرثوذكسية الشرقية، والكونفوشيوسية، والطاوية، والديانات الأخرى التي تتعايش سويًا.

 في الوقت ذاته، فإن "الشرق العالمي" لا يسعى لتقديم بديل حكومي أو نموذج سياسي مغاير للنموذج القائم؛ أو محاولة فرض أيديولوجية جديدة بديلة للنظام الليبرالي الغربي. وبرغم من قناعة البعض أن بكين وموسكو تسعيان إلى طرح بديل للأنظمة الغربية الحالية التي تتحكم في التمويل العالمي، وأنظمة الأمن الإقليمية، وحرية الإنترنت، إلا أنهما في الواقع، ثقافتان متباعدتان إلى حد يصعب معه طرح نظام موحد جديد. فما تسعى إليه الدولتان هو بناء عالم أكثر توازنًا في ظل الهيمنة والاحتكار الغربيين للنظام العالمي؛ كما تهدفان إلى بناء عالم متعدد الأقطاب ينتهي معه الاستعمار السياسي، ويحقق اللامركزية الاقتصادية، والتنوع الثقافي. منذ صعود القوى البحرية الغربية، لقد صنف "الغرب العالمي" الدول على أساس "الدول المركزية المتقدمة – والدول الهامشية أو غير المتقدمة "، وكانت أغلب الدول الآسيوية تنتمي إلى التكتلات الهامشية أو غير المتقدمة، والتكتلات شبه الهامشية أي الدول متوسطة التقدم. وفي العصر الجديد، تتطلع دول "الشرق العالمي" إلى أن تحظى باحترام الغرب، مشددة على أنه لا ينبغي إنكار سيادة الدول الآسيوية وحقها في التنمية.

  • الديناميات الجيوسياسية والجيو اقتصادية وراء صعود "الشرق العالمي"

 أدى الصعود الجماعي للدول الآسيوية، في العصر الحديث، إلى تغيير المشهد العالمي على الصعيدين الجيوسياسي والجيو اقتصادي. وعلى الرغم من أن هذه الدول لا تتمتع بنفس المستوى من التقدم والتطور مثل "الشمال العالمي" من حيث المؤشرات الاقتصادية والتنمية الاجتماعية، إلا أنها تفوقت على غالبية دول "الجنوب العالمي" وأصبحت " أرضية وسط "وتكتلًا سياسيًا مستقلًا بين الشمال والجنوب.

خلال الوقت الراهن، تكاد حصة " الشرق العالمي" من الاقتصاد العالمي تعادل نظيرتها الغربية. ومن المتوقع أن تزداد مساهمته في النمو الاقتصادي العالمي بصورة مستمرة في المستقبل. ويعتمد "الشرق العالمي" بشكل متزايد على التجارة البينية داخل آسيا. حيث تتجه بلدان شرق وجنوب شرق آسيا صوب "الغرب"، بينما تطلع دول غرب آسيا "شرقا"؛ في الوقت ذاته، تعمل روسيا في شمال القارة على إعادة ربط بلدان شبه القارة الآسيوية الجنوبية؛ في حين تخطو دول آسيا الوسطى خطوات ثابتة في أروقة "الشرق العالمي"، مما يعزز تماسك القارة الآسيوية.

منذ اندلاع الصراع الروسي-الأوكراني في 2022م، تخلت روسيا عن دول أوروبا مُوجهة بوصلتها صوب آسيا، تحت ضغط العقوبات الغربية المفروضة عليها. في حقيقة الأمر، فإن التوجه الروسي صوب القارة الآسيوية كان يسبق الأزمة الأوكرانية، التي ساعدت بدورها في التعجيل بتنفيذ سياسات موسكو بشأن "التوجه شرقا". وبالتالي، فإن ما كان في الأصل "زواج مصلحة" بين موسكو وبكين، تحول إلى شراكة أوثق بين البلدين تُغطي مجالات الطاقة، وتطوير البنية التحتية، والدفاع.  في حين أن رؤية بوتين القديمة المُتمثلة في "أوروبا الكبرى" -التي تمتد من لشبونة إلى فلاديفوستوك، والتي تتألف من الاتحاد الأوروبي والاتحاد الاقتصادي الأوراسي بقيادة روسيا-يُجري حاليا استبدالها بـ "آسيا الكبرى" المُمتدة من شنغهاي إلى سانت بطرسبرغ. وقد ساهم التضامن والتقارب الروسي -الصيني في تدعيم حضور “الشرق العالمي". وبالمثل، استعادت إيران، وتركيا، والدول العربية هويتها الآسيوية بخطوات ثابتة وإن كانت بطيئة، وتم دمج هذه الدول داخل منظمة شنغهاي للتعاون ومجموعة البريكس، مما زاد من تعزيز الوعي الجماعي بـ "الشرق العالمي".

تسعى دول "الشرق العالمي" جاهدة من أجل تدعيم الربط اللوجيستي فيما بينها. فبرغم أن الدول الآسيوية كانت متجاورة جغرافيا مع بعضها البعض عبر التاريخ، إلا إنها عانت من العزلة بفعل العوامل البيئة مثل الجبال، وصحراء غوبي، والأنهار، التي جعلتها محجوبة ومعزولة لفترات طويلة. وفي ظل النقل البري الذي يستغرق وقتا طويلا ومُكلفا، اضطرت دول آسيا للاعتماد على القوى البحرية الغربية في أوروبا والولايات المتحدة، التي كانت شريكها الاقتصادي والتجاري الرئيسي. وفي ظل التطورات والمجريات الحديثة، تسارع بناء الطرق السريعة، والسكك الحديدية، وشبكات الكهرباء، وشبكات المعلومات، مما ساهم في تعزيز الاتصال بين الدول الآسيوية، التي نجحت بفضل هذه الجهود في التغلب على الحرمان الطبيعي من سيادة النقل البري خلال القرنين الماضيين.

تمثل شبكة السكك الحديدية أهمية جغرافية اقتصادية وسياسية خاصة. فقد ساهم خط "الصين-أوروبا" السريع وخط السكة الحديد بين "الصين ولاوس" في تسريع التبادلات الاقتصادية والتجارية داخل آسيا الوسطى، وشرق آسيا، وغربها، وشمالها، وجنوبها؛ كذلك من شأن "ممر النقل بين الشمال والجنوب" بين روسيا، وتركمانستان، وإيران، والهند أن يعزز التكامل الاقتصادي في جنوب آسيا، وآسيا الوسطى، والمناطق النائية في أوراسيا. وخلال السنوات الأخيرة، تراجعت حدة الصراعات بين دول جنوب آسيا وآسيا الوسطى، وتمت ترجمة مكاسب السلام إلى مكاسب إنمائية، الأمر الذي عزز التكامل الاقتصادي الإقليمي داخل آسيا. شكلت دول "الشرق العالمي" شبكة واسعة من خلال تبادل الأفراد، والطاقة، والسلع، ورؤوس الأموال، والمعلومات، والتكنولوجيا.

الصعود الاقتصادي يولد معه سياسات الهوية. فخلال القرن 21، زاد وعي الدول الآسيوية بالاستقلال الاستراتيجي، ولعبت سياسات الهوية دورا مهما في الحياة السياسية لكل دولة. ويعد قرار تركيا تغيير اسمها باللغة الإنجليزية ليُصبح «Türkiye» وليس "Turkey"، وكذلك نية الهند تبديل اسمها إلى الكلمة الهندية “Bharat" -"بهارات" مجرد نموذجين. وفي خضم عملية التفاعلات الحضارية وإعادة بناء القيمة، إذ تسعى الدول الآسيوية بنشاط إلى البحث عن هوياتها الجماعية وقيمها التقليدية.

  • تبعات صعود "الشرق العالمي"

في الواقع، ثمة اختلافات كبيرة بين دول "الشرق العالمي" على صعيد الأنظمة السياسية، والأديان، والهياكل الصناعية. بالتالي، فهي في حاجة إلى تجاوز العديد من العقبات أثناء عملية إعادة بناء الهياكل الآسيوية السياسية، والأمنية، والثقافية مثل المنافسات الجيوسياسية المحلية للنزاعات الإثنية، والطائفية، والإقليمية، والآثار غير المباشرة للقضايا الساخنة الإقليمية؛ وتجانس الهياكل الصناعية والمنافسة لنماذج التنمية في مختلف البلدان؛ والتنافس الجغرافي الاقتصادي مثل النزاعات على موارد النهر عبر الحدود. ومع ذلك، فإن صعود "الشرق العالمي" يعد أمرًا مهمًا على مستويات عدة:

أولًا، فإن صعود "الشرق العالمي" قد يؤدي إلى تعزيز التكامل والاندماج بين دول منظمة شنغهاي للتعاون. فاعتبارًا من عام 2024م، بلغ عدد دول منظمة شنغهاي تسعة أعضاء وهم (الصين، والهند، وإيران، وكازاخستان، وقيرغيزستان، وباكستان، وروسيا، وطاجيكستان، وأوزبكستان)، بالإضافة إلى ثلاثة دول تحمل صفة مراقب (أفغانستان، وبيلاروس ومنغوليا) و14 شريكًا في الحوار وهم (أذربيجان، وأرمينيا، والبحرين، ومصر، وكمبوديا، وقطر، والكويت، وجزر المالديف، وميانمار، ونيبال، والإمارات، والمملكة العربية السعودية، وتركيا، وسريلانكا). وتمثل المنظمة الإقليمية 25 ٪ من مساحة الأراضي العالمية و45 ٪ من تعداد سكان العالم، مع ضمها أكثر الدول اكتظاظا بالسكان على مستوى العالم وإمكانات سوقية ضخمة. يشكل أعضاء منظمة شنغهاي القوة الأساسية للكتلة غير الغربية المؤهلة لأن يكون لها صوت أكبر.

وباعتبارها أهم منظمة سياسية يتم تأسيسها بواسطة قوى غير غربية، تضم منظمة شنغهاي أربع دول نووية -الصين، وروسيا والهند، وباكستان -وتحمل مقعدين دائمين لدى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. استخدم الأعضاء الرسميون والمراقبون منظمة شنغهاي كمنصة لدمج وتضمين أنفسهم في المجالات الأربعة الرئيسية للأمن، والسياسة، والاقتصاد والثقافة. وقد عزز هذا الترابط بين الدول البحرية، والبرية، والبرمائية في المناطق الفرعية الآسيوية وخلق بيئة محيطة مواتية لأمن الدول الآسيوية والتنمية.

ثانيًا، من الممكن أن يساعد صعود تجمع" الشرق العالمي" في تعزيز العمل الإقليمي. فإن الغرب لا يقبل بأن يكون غرب آسيا جزءًا من آسيا أو الشرق العالمي. وعلى مستوى منطقة الشرق الأوسط، تعكف الولايات المتحدة على تطبيق استراتيجية" فرق تسد" وأقامت قمة "النقب" التي تضم إسرائيل، والإمارات، والبحرين، والمغرب، إلى جانب مصر ودول أخرى. كما حرصت واشنطن على عقد “القمة الأمريكية -العربية" مع زعماء تسع دول عربية من بينها دول مجلس التعاون الخليجي الست، ومصر، والأردن، والعراق. حيث تأمل إدارة بايدن في بناء “تحالف دفاعي شرق أوسطي" من أجل تشكيل "مثلث استراتيجي" يجمع بين الولايات المتحدة، وإسرائيل، والحلفاء العرب، ويربط بين حلفاء واشنطن الأوروبيين مع شركائها في الشرق الأوسط ومنطقة المحيطين الهندي-الهادي. استطاعت الولايات المتحدة كسب نفوذ على دول مثل اليابان، وكوريا الجنوبية، والفلبين، "الدول المتأرجحة" الثلاث في الشرق العالمي، بهدف دق إسفين بين الدول الآسيوية البحرية والقارية. وفي جنوب آسيا، تستفيد الولايات المتحدة من التناقض بين الهند وباكستان من أجل تبني استراتيجية ذات مسارين. أما بالنسبة للشرق الأوسط، تعتمد الولايات المتحدة على "الحلفاء المعتدلين" (إسرائيل، الإمارات، المملكة العربية السعودية، مصر، إلخ) لاحتواء "تحالف المقاومة" بقيادة إيران. من ثم، فقد نجحت سياسة" فرق تسد" التي تنتهجها واشنطن في تقويض القوى المركزية للشرق العالمي.

وعلى النقيض من "الغرب العالمي" المتجانس إلى حد بعيد، تختلف بلدان "الشرق العالمي" بشكل كبير من حيث أنظمتها السياسية، والأيديولوجيات الخاصة بها، واستراتيجياتها التنموية؛ فإن ما يمتلكه "الشرق العالمي" حاليًا ليس سوى "مجتمع مُتصَور" هش غير واضح المعالم. وكما أشار الباحث الروماني ليفيو تشيلسيا إلى أن "الشرق العالمي" كفكرة يستند على احتمالية منطقية، وليس أمرًا واقعًا. ويواجه التكامل الآسيوي شبه الإقليمي والترابط بين الأقاليم داخل آسيا مجموعة متنوعة من العقبات الداخلية والخارجية، والسياسية، والاقتصادية، مثل التداخل الخارجي، واستراتيجيات التحوط للأعضاء والحركات الانفصالية.

بالتالي، فإن الطريق لايزال طويلًا أمام "الشرق العالمي" قبل أن يصبح كيانًا متماسكًا. فإن دول مثل الهند، والمملكة العربية السعودية، وغيرها، تبحث عن توازن بين الشرق والغرب. في حين أن دولًا آسيوية صغيرة ومتوسطة الحجم تميل إلى الالتزام بـ "سياسة التحوط" المتمثلة في "الاعتماد الجيوسياسي على الغرب والاعتماد الجيو اقتصادي على الشرق"، بينما تتمسك روسيا، وإيران وسوريا، وكوريا الشمالية بسياسة المواجهة مع الغرب. من ثم فإن هذا التنوع في الاستراتيجيات يجعل دول "الشرق العالمي" تفتقر إلى توجه سياسي مشترك. علاوة على ذلك، فإن آليات التعاون متعدد الأطراف في "الشرق العالمي" تعد في الغالب "قوانين غير ملزمة"، وهي تتسم بالشمول والانفتاح إلى حد ما؛ كذلك قد تصبح المنافسة الداخلية والمواجهة بين بعض دول "الشرق العالمي" على نفس القدر من الشراسة مثل منافستها ومواجهتها مع الأطراف الخارجية.

ثالثًا، قد يؤدي صعود" الشرق العالمي" إلى تعزيز " النهضة الآسيوية". مقارنة بالدول الغربية، فإن بلدان "الشرق العالمي" لديها أنظمة سياسية غير متجانسة وقيم متعددة الثقافات وأنماط مختلفة للحياة. وتعكف دول الشرق العالمي حاليًا على إعادة تشكيل الخطاب الغربي حول السياسة العالمية، والخروج من فخ خطاب "الغرب الديمقراطي مقابل الشرق الاستبدادي والارستقراطي"، وصياغة بدلًا من ذلك “سردية شرقية" للحداثة السياسية للمساعدة في بناء مجتمع آسيوي ذو مصير مشترك وتقديم خطاب فكري للتكامل الإقليمي. ومثلما ساعدت المنح الدراسية في إدراج المعرفة والرؤى المُستقاة حول "الجنوب العالمي" في خضم النقاش الأكاديمي المُعاصر -تلك المعرفة التي غالبًا ما تشكلت في ضوء نظريات ما بعد الاستعمار -فيبدو من المهم بشكل متزايد فعل الشيء ذاته مع المعارف والنظريات المستمدة من "الشرق العالمي" (لعدم وجود مصطلح أفضل)، والتي تظل في بعض الأحيان مُهمشة على صعيد المعرفة الجغرافية والمناقشات.

على مدار آلاف السنين وقبل صعود القوى البحرية الأوروبية في القرن 18. كانت الحضارات الآسيوية تمثل قلب السياسات العالمية.  وخلال العصر الحديث، اتجهت هذه الحضارات إلى إعادة اكتشاف روابطها التاريخية والتحول من العزلة إلى التعاون ومن التنافر إلى التقارب منذ اندلاع الصراع بين روسيا وأوكرانيا، وبين الإسرائيليين والفلسطينيين، استحوذ مصطلح " الشرق العالمي" على اهتمام الباحثين في الدراسات الدولية بشكل متزايد. حيث تمكن "الشرق العالمي"، الذي تشكل البلدان الآسيوية جسده ودول آسيا الوسطى قلبه، من الصمود أمام الضغوط الأمريكية والغربية حول الأزمة الأوكرانية واعتماد موقف محايد بشكل عام دون الانحياز إلى أي من الأطراف محافظًا على سمته المميزة.

ومع طول أمد الصراع الروسي-الأوكراني والعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، إلى جانب تكثيف الولايات المتحدة عقوباتها على فصائل المقاومة التي تقودها روسيا وإيران، عزز ذلك إصرار موسكو على "الابتعاد عن الفلك الأوروبي" و"ابتعاد طهران عن منطقة الشرق الأوسط " والتوجه للانخراط داخل آسيا".

ختامًا

منذ اندلاع الحرب الأوكرانية المريرة في عام 2022م، أرادت إدارة جون بايدن الاستفادة من تركيا وحلفائها العرب، واستخدامهم ك “بيادق" في منافستها الاستراتيجية أمام الصين وروسيا، وهو ما عزز إصرار هذه الدول على "التوجه شرقًا " في خضم المنافسة المحتدمة بين القوى العظمى. وذلك من خلال التعويل على الولايات المتحدة في التعاون الأمني، والاعتماد في الوقت ذاته على البلدان الآسيوية في الشؤون الاقتصادية. وقد شاركت الدول الآسيوية بنشاط في "منتدى الحضارات القديمة" الذي عزز جهود تحديث الحضارات الآسيوية القديمة ودعم طموحها لإحياء ثقافاتها. وفي ظل التحول من الهيمنة الأمريكية إلى عالم متعدد الأقطاب، يزداد صعود سياسة الهوية، وتستيقظ الدول الآسيوية على القومية والاستقلالية الاستراتيجية. إن انحسار العولمة وعدم النمو الاقتصادي الليبرالي جعل دبلوماسية الجوار أولوية قصوى للدول الآسيوية.

باختصار، انتقلت بلدان "الشرق العالمي" من نطاق الدول الهامشية وشبه الهامشية إلى مركز المسرح العالمي، منتهجة سياسة التنمية الاقتصادية من القاعدة إلى القمة بدلا من التحول الديمقراطي من الأعلى إلى الأسفل، باعتبار ذلك المسار الأساسي للتحديث. وتصر معظم تلك البلدان على "البحث عن أصدقاء" بدلًا من "البحث عن أعداء"، والسعي إلى "الشراكة" بدلا من "التحالف"، وإعادة بناء هوياتها الآسيوية تحت راية عملية "النهضة الآسيوية".  

مقالات لنفس الكاتب