إن علاقات دول الخليج العربية مع العالم الغربي بشكل عام ودول حلف الناتو بشكل خاص قديمة ومتجذرة. فمنذ توحيد المملكة العربية السعودية في بدايات القرن العشرين واستقلال دول الخليج في النصف الثاني من نفس القرن، كانت العلاقات الخليجية ـ الغربية دائماً متميزة ومتطورة ومن كافة النواحي السياسية والأمنية والاقتصادية. وطالما سعت دول الخليج العربية إلى الحفاظ على هذه العلاقة رغم التوترات التي كانت تشوبها في فترات مختلفة.
بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي في نهايات القرن العشرين، بدأ حلف الناتو التوسع في نشاطاته إلى مناطق خارج القارة الأوروبية، ومن هذه المناطق كانت منطقة الشرق الأوسط والتي سارع الحلف إلى إطلاق مبادرات تهدف إلى تأسيس علاقات جيدة بين الحلف ودول الشرق الأوسط. ففي عام 1994م، تم الإعلان عن الحوار المتوسطي وهو منتدى هدفه (حسب إعلان حلف الناتو) "إقامة علاقات جيدة وتفاهم وثقة متبادلين أفضل في جميع أنحاء المنطقة، وتعزيز الأمن والاستقرار الإقليميين، وشرح سياسات وأهداف الناتو". وشاركت سبع دول شرق أوسطية في هذا الحوار هي: مصر، وإسرائيل، وموريتانيا، والمغرب، وتونس، والأردن، والجزائر. كلها انضمت في العام 1995م، فيما عدا الجزائر التي انضمت في العام 2000م، ولم يتم التوسع في الحوار عدداً بعد ذلك.
في العام 2004م، أطلق الناتو مبادرة جديدة موجهة إلى دول مجلس التعاون الخليجي بشكل خاص والشرق الأوسط بشكل عام. ففي قمة الحلف في إسطنبول في يونيو 2004م، أطلق الحلف مبادرة إسطنبول للتعاون. وهذه المبادرة أيضاً جاءت كتجمع إقليمي يتباحث فيه الخبراء من الجانبين: الناتو ودول الخليج للخروج بفهم معمق للتحديات والمخاطر الأمنية التي يرى هؤلاء الخبراء أنها عائق أمام الاستقرار ومن ثم تحديد السبل للتعامل معها والحد من مخاطرها أو التخلص منها كلياً. كما تهدف المبادرة إلى "إعطاء الفرصة للدول من خارج الناتو للتعاون مع حلف الناتو". وتشكل المبادرة آلية تسمح لأعضاء الناتو وشركاء المبادرة للاجتماع والتحدث حول القضايا الأمنية التي تهم كلًا من الطرفين. ومن خلال بناء علاقة من الثقة المتبادلة، يستطيع الطرفان تبادل الخبرات والمشاركة في أفضل السبل للتعامل مع القضايا الأمنية ذات الأهمية للطرفين.
من الأنشطة التي تطورها المبادرة: التخطيط والاتفاق فيما يتعلق بالدفاع والحرب على الإرهاب ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل. منذ صدور المبادرة عام 2004م، وقعت عليها أربع دول: البحرين، وقطر، والكويت، والإمارات. أما بالنسبة لنشاطات المبادرة، فقد تم في عام 2017م، بناء مركز إقليمي للناتو ومبادرة إسطنبول للتعاون (NATO-ICI regional center) كمركز للتعاون وللتفاهم حول التحديات الأمنية مما يساهم في تعاون أقرب. عدا ذلك، قدمت الدول المعونة لعمليات الناتو في مناطق كأفغانستان وليبيا. الحقيقة، هي أن مبادرات "الناتو" لم تصنع تقدماً واسع النطاق في بناء علاقة مثمرة مع دول الخليج العربي بشكل خاص والدول العربية بشكل عام. حتى في الزيارة الأولى إلى المملكة العربية السعودية من قبل السكرتيرالعام للحلف في نهاية العام الماضي، جاء يانز ستولتنبرغ وتحدث بإسهاب حول الحرب في أوكرانيا ومخالفات روسيا للقانون الدولي ولم يتحدث عن عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط وأسبابها كالحرب في غزة ولبنان والسودان. ومع أنه تحدث بشكل عام عن إمكانيات التعاون بين المملكة والحلف إلا أنه لم يبين كيفية هذا التعاون وماذا يستطيع الحلف تقديمه خاصة في مجالات التصنيع العسكري.
إن إمكانات التعاون بين دول الخليج العربي وحلف الناتو واسعة وممكنة ولكن هناك مجموعة من التحديات الفكرية والعملية والتي تشكل عائقاً أمام تطوير هذا التعاون. ومن هذه التحديات أولاً: نظرة الحلف إلى المنطقة العربية لا زالت قديمة وينظر إلى المنطقة العربية كمصدر للإرهاب والتطرف. تنظر دول الحلف إلى العالم العربي كأمة أيدولوجية تقدس الماضي وتلعن الحاضر ولا تدري ما المستقبل. وبالتالي هي بحاجة إلى الفكر الغربي لتطويرها. في الحقيقة أن في العالم العربي دول صنعت استراتيجيات تنتقد الماضي وتحسن في الحاضر وتبني نحو المستقبل. مثلاً رؤية المملكة العربية السعودية 2030م، عبارة عن استراتيجية واضحة تنتقل بالمملكة إلى مصاف الدول المتقدمة في كافة نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والثقافية والسياسية. فلو نظر الحلف بإيجابية إلى هكذا رؤى فإن إمكانات التعاون ستكون واسعة ومثمرة.
ثانياً: تسعى دول الخليج العربية إلى بناء محور للاستقرار الإقليمي والدولي تكون فيه هذه الدول مركزاً لهذا المحور. يتم فيه تحديد السبل والأدوات السياسية والأمنية التي تستطيع فيه دول المنطقة بشكل خاص والعالم بشكل عام التعايش السلمي بعيداً عن الحروب والقلاقل الداخلية. في هذا المجال تمتلك دول الخليج العربي الخبرة الكافية في كيفية بناء الاستقرار الداخلي من خلال تحسين الظروف المعيشية لمواطينيها ومقيميها بالتساوي وبدون أي نظرة عنصرية أو شعبوية.
أما الحلف فيرى الاستقرار مشكلة أمنية تحل بالوسائل العسكرية وأدوات القوة. لذلك لم يستطع الحلف أن يصنع أي استقرار في الدول التي كان له أنشطة فيها: ليبيا، العراق، افغانستان. يستطيع الحلف أن يلعب دوراً هاماً في هذا المجال من خلال مساعدة الدول المستقرة التي تشكل هذا المحور لتصبح النموذج للاستقرار بحيث تستطيع دول أخرى حذو حذوها بهدف زيادة الدول المستقرة من خلال زيادة أسباب الاستقرار في كل دولة. فالاستقرار لا يبنى بالقوة فقط، هناك ضرورة لتحسين الوضع الاقتصادي، محاربة البطالة وأفكار العنف والكراهية. في هذا المجال يستطيع الحلف، من خلال خبرات الدول المستقرة في الإقليم أو في أوروبا، صنع نماذج للاستقرار يتم الترويج لها في المنطقة.
إن الاستقرار السياسي في الشرق الأوسط من هم أهداف الدول الآنية والمستقبلية. فمن خلال الاستقرار تستطيع الدول تطوير الاقتصاد وجذب الاستثمار ورسم الخطط المستقبلية. إن جميع الدول التي عانت من القلاقل الداخلية ولم تستطع بناء استقرار مجتمعي وسياسي، تراجعت إلى مستوى الدول الفاشلة، وعانت مجتمعاتها على كافة المستويات: الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية والثقافية.
لذلك، ترى دول الخليج العربي أن تجربتها في بناء الاستقرار السياسي مفيدة وممكن تعميمها على مستوى إقليم الشرق الأوسط يبدأ على شكل تكامل إقليمي بين دول الخليج تضاف إليها دول مستقرة كالأردن ومصر وتونس والمغرب. وفي خطوة تالية لاحقة ممكن إضافة دول أخرى كالصومال وجيبوتي. أما الخطوة الثالثة فهي مساعدة الدول غير المستقرة في بناء وحدتها السياسية وتحسين اقتصادها وذلك من خلال دور دول الناتو في تقديم المساعدة لهذه الدول. إن في استقرار الشرق الأوسط مصلحة مباشرة لدول الناتو. فوجود دول مستقرة وناجحة في الجنوب من أوروبا يخفف من مشاكل الهجرة ويقلل من الصراعات الممتدة التي تعيق أسباب التقدم والبناء في القارة الأوروبية.
ثالثاً: تسعى دول الخليج العربي إلى التوصل إلى اتفاق أمني مع الولايات المتحدة بشكل خاص والناتو بشكل عام بحيث تستطيع هذه الدول الحصول على أكثر أنواع الأسلحة تقدماً كتلك التي تمنحها دول الحلف لبعضها البعض ولدول حليفة كإسرائيل وغيرها. إن هذه الاتفاقية الأمنية هي الضمانة الوحيدة التي تبقي دول الخليج العربي حليفة موثوقة لحلف الناتو بحيث لا تضطر إلى البحث عن السلاح من دول خارج الحلف. كما يمكن للحلف المساعدة في بناء برنامج نووي سلمي في المملكة العربية السعودية مما يساهم إلى حد كبير في تطوير صناعاتها ويصب في تحقيق آمال المملكة في الانتقال إلى رؤية 2030 التي تطمح المملكة في الوصول إليها قبل حلول العقد القادم.
رابعاً: إن دول الخليج العربي دعاة سلام واستقرار وبناة علاقات جيدة ومثمرة مع أكبر عدد ممكن من دول العالم. فمنذ استقلالها، عملت دول الخليج على رسم سياساتها الخارجية بحيث تتوافق مع مصالح أكبر عدد ممكن من الدول. فلطالما رفضت دول الخليج سياسات المحاور المتضادة، وساهمت في بناء جماعة دولية متماسكة وتعمل لصالح البشر ككل.
لذلك، فمن غير المعقول أن تتوقع دول الناتو من دول الخليج العربية ألا تقيم علاقات متوازنة ومثمرة مع كل من الصين وروسيا. إن علاقات دول الخليج مع هاتين القوتين العظميين تعتبر إحدى الوسائل التي تستخدمها دول الخليج للتخفيف من حدة التوتر العالمي وبناء الاستقرار الدولي. فقد ينجم عن هذه العلاقة أن تساهم المملكة العربية السعودية في حل النزاع في أوكرانيا بما يحقق مصالح الطرفين وإنهاء معاناة وخسائر الدولتين. لذلك، ترغب دول الخليج في أن تكون الجسر الذي من خلاله يتجه العالم إلى الوفاق بدلاً من الصراع.
أخيراً، تسعى دول الخليج إلى بناء السلام والأمن في منطقة الشرق الأوسط من خلال حل القضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين. يستطيع حلف الناتو تبني فكرة المملكة العربية السعودية التي تقوم على أساس تحقيق العدالة وتمكين الشعب الفلسطيني من بناء دولته على أرضه مما يساهم في قبول إسرائيل كدولة تتكامل مع دول الإقليم وتعمل مع الدول العربية على تحقيق الاستقرار والتقدم لكافة الدول بعيداً عن الصراعات والنزاعات التي استهلكت الكثير من طاقات الدول في إقليم الشرق الأوسط ومنعتها من المساهمة الحقيقية في تحقيق السلم والاستقرار الدوليين.
إن علاقات دول الخليج العربي مع دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) قديمة ومتجذرة وممكن البناء عليها. لقد كانت زيارة أمين عام الحلف إلى المملكة العربية السعودية نهاية العام الماضي خطوة بالاتجاه الصحيح وقيامه بتشكيل لجنة تدرس احتياجات دول الخليج والعمل على دراستها بشكل جدي يساهم في تطوير هذه العلاقة بما يحقق المصالح العليا لكل من دول الخليج العربية والناتو. إن قيام علاقة مثمرة ومتوازنة بين الطرفين فيه الكثير من المصلحة المشتركة لشعوب الدول الخليجية والغربية على حد سواء أساسها المصلحة المشتركة والاحترام المتبادل.