على مدى خمسة وسبعون عاماً هى عمر حلف شمال الأطلسى (الناتو)، استطاع الأخير تجاوز العديد من التحديات، والاستجابة لمتغيرات دولية كبرى، لعل أهمها تفكك الاتحاد السوفييتي مطلع التسعينات، وتعالى العديد من الأصوات الأوروبية حول جدوى استمرار الحلف بعد زوال التهديد الشيوعى، متناسين أهداف الحلف الثلاث التى أعلنها أول أمين عام للناتو، اللورد هاستينجز ليونيل إسماي (1952-1957م) في مستهل فترته، وهي: "إبقاء الروس خارج (أوروبا)، والأمريكيين داخلها، والألمان في الأسفل". فقد استطاع الحلف إعادة صياغة مهامه واستحداث أخرى بالتأكيد على أن الأمن الأوروبي يبدأ من وراء حدود دول الناتو، وبدأ إسناد مهام جديدة للحلف خارج حدود دوله، وإن ظلت في النطاق الأوروبي جغرافياً، وتركزت طوال حقبة التسعينات من القرن الماضي على منطقة البلقان ووسط أوروبا. وقد اتسع هذا التوجه وامتد ليشمل دول خارج القارة الأوروبية بعد أحداث 11 سبتمبر، بداية بأفغانستان ووصولاً لليبيا، لتتجاوز أولوياته الأمن الأوروبي إلى الأمن العالمي. وقد كانت الإرادة الأمريكية وحرص واشنطن على استمرار الحلف الذي يعد أحد أهم مكتسباتها وأدوات نفوذها العالمي هو السبب الرئيسي وراء ذلك. فقد جاءت نشأة الحلف في 4 أبريل 1949م، بمبادرة أمريكية من أجل الحفاظ على هيمنتها على الشؤون الأمنية والسياسية الأوروبية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية نتيجة دورها المحوري في الحرب، وإنقاذها للقوى الأوروبية الكبرى خاصة بريطانيا وفرنسا من خطر النازية. إلا أن المشهد الحالي يبدو معقداً في ضوء تحديات عدة يأتي في مقدمتها التصعيد مع روسيا والانزلاق إلى حافة المواجهة النووية بين الطرفين، إلى جانب التحديات النابعة من داخل الحلف ذاته، ومن أبرزها:
- حالة الانكشاف النسبي للمجمع الصناعي العسكري لدول الناتو:
رغم كون دول الناتو من كبار مصدري السلاح في العالم، حيث تحتل الولايات المتحدة المرتبة الأولى وفرنسا المرتبة الثالثة، في حين تأتى ألمانيا وإيطاليا وبريطانيا في المرتبة من الخامسة إلى السابعة على التوالى خلال الفترة (2017 – 2021م)، إلا أن الأزمة الأوكرانية كشفت عن بعض أوجه القصور في الصناعات العسكرية لهذه الدول. وقد أشار الأمين العام للحلف، ينس ستولتنبرج، إلى ذلك صراحة موضحاً أن المعدل الحالي لاستهلاك الذخيرة في أوكرانيا أعلى بعدة مرات من معدل إنتاج الناتو الحالي، مما يضع الصناعات الدفاعية لدول الناتو تحت ضغط، ويضاعف وقت انتظار الذخيرة ذات العيار الثقيل من 12 إلى 28 شهرًا، مما يفرض زيادة الإنتاج والاستثمار في الطاقة الإنتاجية لدول الحلف. وحذر مفوض السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، من أن المخزون الاحتياطي للأسلحة الأوروبية التي يتم إرسالها إلى أوكرانيا قد نفذ وأرجع ذلك إلى عدم تلقي المجمع الصناعي العسكري الأوروبي التمويل المناسب خلال السنوات الماضية، اعتقاداً أن أوروبا لن تدخل في حرب كبرى.
كذلك، أكدت وكالة "بلومبيرج" الأمريكية، في أكتوبر 2022م، أن مخزونات بعض الدول الأوروبية التي أرسلت أسلحة لأوكرانيا بدأت في النفاد، وأن واشنطن تقترب من بلوغ أقصى إمكاناتها لتزويد كييف بالإمدادات العسكرية خصوصًا من الذخائر. وأن دول الناتو حثت شركات إنتاج الأسلحة على تسريع عجلة الإنتاج لمساعدتها في سد النقص في مخزوناتها من الأسلحة، وللاستمرار في مساعدة أوكرانيا. ويتركز الضغط على الذخائر بما فيها قذائف المدفعية عيار 155 مليمترا، والتي أرسلت الولايات المتحدة إلى أوكرانيا ما يزيد عن مليون طلقة منها خلال عام، وكذلك الصواريخ الموجهة المستخدمة في نظام هيمارس التي يزيد مداها على 80 كيلومترا، والتى زودت الولايات المتحدة أوكرانيا بثلث مخزونها منها وكذا من صواريخ جافلين وستينجر.
في هذا الإطار، أعلن ستولتنبرج، في فبراير 2023م، توجه جديد للتخطيط الدفاعى للحلف يتضمن تعزيز القدرة الصناعية وتجديد مخزونات الأسلحة والذخائر، أو ما أطلق عليه السباق من أجل الخدمات اللوجستية، وزيادة الاستثمار في الدفاع، والتحول إلى نظام الدفاع الذكي Smart Defense القائم على إنفاق الموارد الدفاعية المحدودة بشكل أكثر فعالية، وتنسيق التخصص بين الدول الأعضاء، وإدارة دورة حياة الأسلحة وقطع الغيار بكفاءة. كما أصدر الاتحاد الأوروبي، للمرة الأولى، في مارس 2024م، الاستراتيجية الأوروبية للصناعات العسكرية (EDIS)، بهدف تعزيز جاهزية أوروبا ودعم قدرتها التنافسية في المجال، وذلك من خلال زيادة الاستثمار الأوروبي في القطاع الصناعي العسكري، ودعم البحث والتطوير العسكري المشترك وتطوير أحدث التقنيات والقدرات الدفاعية المستقبلية، ودمج الصناعات العسكرية للدول أعضاء الاتحاد الأوروبي في نظام واحد، وزيادة التجارة البينية على الصعيد الأوروبي من الأسلحة والمعدات العسكرية.
إلا أن كل هذه الخطوات مازالت قيد التنفيذ ولا يمكن التكهن بمدى فاعليتها أو نجاحها في تحقيق الأهداف المرجوة ومواجهة تحديات القطاع الصناعي العسكري لدول الناتو.
- مدى التوافق حول التحدي الصيني:
أشار تقرير الحلف الصادر في 25 نوفمبر 2020م، والذي جاء بعنوان "الناتو 2030: متحدون لعصر جديد"، إلى الصين كثاني أهم تحدي يواجه الحلف بعد روسيا، وذلك لأول مرة في تاريخه، فلم تكن الصين ضمن المهددات الأمنية للحلف من قبل. وهو ما أكده "المفهوم الاستراتيجي" للحلف الصادر في 29 يونيو 2022م، الذي اعتبر أن الطموحات المعلنة للصين وسياساتها القسرية تتحدى مصالح دول الحلف وأمنها وقيمها، وأن العمليات الهجينة والسيبرانية "الخبيثة" التي تقوم بها الصين الشعبية تستهدف الحلفاء وتضر بأمن التحالف، وأن الشراكة الاستراتيجية العميقة بين الصين وروسيا ومحاولاتهما المتبادلة لتقويض النظام الدولي القائم تتعارض مع قيم الحلف ومصالحه.
ويتسق هذا تماماً مع التوجهات والسياسات الأمريكية التى تعتبر الصين تهديدًا رئيسيًا للأمن القومي الأمريكي، يتعين مواجهتها وتقويض قدراتها وعرقلة صعودها. إلا أن بعض دول الناتو الأخرى، رغم التزامها بالوثائق السابقة، تبدي مرونة إزاء بكين وتنأى عن التصعيد المبالغ فيه معها، وتتبع سياسات مغايرة تنطوي على انفتاح واضح على الصين، لعل أهمها ألمانيا. فقد اعتبرت استراتيجية الأمن القومي الألمانية، الأولى من نوعها، والصادرة في 14 يونيو 2023م، الصين، "شريك"، و"منافس"، فهي أكبر شريك تجاري لألمانيا إلا أن هذا لا ينفي كونها تهدد بشكل متزايد الاستقرار الإقليمي والأمن الدولي، وفقاً للوثيقة. وعلى صعيد السياسات تتطور العلاقات بين الصين وألمانيا بشكل ملحوظ في ضوء الزيارات المتكررة للمستشار الألماني، أولاف شولتز، لبكين في نوفمبر 2022 وأبريل 2024م، واستمرت الأخيرة ثلاثة أيام، في أطول زيارة خارجية له، في وقت تزداد العلاقات الأمريكية ــ الصينية توتراً حول مدى واسع من القضايا في مقدمتها تايوان.
- تحدي تماسك الحلف والعلاقة بالشريك الأمريكي:
يبرز في هذا الإطار مجموعة من المعضلات تواجه الحلف، أهمها وأكثرها إلحاحاً المعضلة الأوكرانية، فقد نجحت أزمة أوكرانيا في دعم تماسك الحلف إزاء ما اُعتبر تهديد وجودي للأمن الأوروبي والعالمي. إلا إنها أثارت، من ناحية أخرى، بعض الشد والجذب داخله حول قبول أوكرانيا عضو كامل في الحلف حيث حذرت إيطاليا ودول أخرى من أن كييف لا يمكنها الانضمام للحلف وهي لا تزال تخوض حربا مع روسيا مما يورطه في مواجهة مباشرة مع الأخيرة. وتساءلت دول أخرى عن جدوى استمرار تدفق الأسلحة لكييف وعرقلت المجر أكثر من مرة حزم مساعدات لأوكرانيا منتقدة استمرار الدعم لها. ورفضت ألمانيا وإيطاليا وعدد آخر من الدول دعوة الرئيس ماكرون بإرسال قوات إلى أوكرانيا وتوريطهم في الحرب مع موسكو، كما رفضت ألمانيا توصيف مشروع دعم جديد لأوكرانيا تم طرحه في يونيو 2024 م، بأنه "بعثة"، واقترحت تسميته "تعهد تنسيق المساعدة والتدريب" PACT، حتى لا يُفهم خطأ أن الحلف يريد إرسال جنود إلى أوكرانيا للمشاركة في الأعمال القتالية، وأن الأمر يقتصر على تدريب القوات الأوكرانية.
يضاف إلى هذا استمرار المعضلة التركية، فقد تمسكت أنقرة بحيادها في الأزمة الأوكرانية ورفضت الانضمام لنظام العقوبات الغربية، وسبق وأن فشلت كل من الولايات المتحدة وأوروبا الغربية في التعامل مع تركيا، أحد أهم وأقدم أعضاء الناتو، إلى الدرجة التي باتت أنقرة تهدد بانسحابها الفعلي من الحلف وذلك على خلفية صفقة منظومة "إس 400" الروسية لتركيا والتحفظات الأمريكية عليها. ففي سبتمبر 2017 م، وقعت موسكو وأنقرة اتفاقًا بشأن توريد أنظمة "إس 400" إلى تركيا بقيمة إجمالية تتجاوز 2.5 مليار دولار، مما أثار حفيظة واشنطن نظراً لكون تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي وعليها التقيد بالمنظومات الغربية للحلف، ولأن الصفقة حفزت على تزايد الطلب على المنظومة من دول أخرى حليفة لواشنطن ليست عضو بالناتو. وفي هذا السياق حذرت واشنطن من تبعات عقد صفقات لشراء أسلحة روسية، وذلك وفقًا لقانون "مواجهة أعداء أمريكا عبر العقوبات "(CAATSA) الموجهة ضد روسيا وإيران وكوريا الشمالية، الذي وقعه الرئيس ترامب في 2 أغسطس 2017م، وبدأ سريانه في 29 يناير 2018م.
يزيد من وقع هذه المعضلات التوجه الأوروبي نحو درجة أعلى من الاستقلالية في الشؤون الدفاعية، ولا يعني هذا بالطبع فك الارتباط الاستراتيجى مع واشنطن، وإنما تنمية القدرات الدفاعية الأوروبية على النحو الذي يمكنها من مواجهة التهديدات وزيادة تنافسيتها في سوق السلاح. هذا التوجه ليس بجديد حيث تزعمت فرنسا فكرة إنشاء جيش أوروبى موحد وهيكل أمني أوروبي لأول مرة عام 1950م، لكن واشنطن أفشلت هذا المسعى، بحجة عدم الحاجة إلى وجود جيش أوروبي في ظل وجود حلف شمال الأطلسي. ثم عادت باريس وضمنت السياسة الدفاعية المشتركة ضمن السياسة الخارجية والأمنية المشتركة للاتحاد الأوروبي (CFSP) في إطار الاتفاقية المؤسسة له، اتفاقية ماستريخت 1992م، وقادت عدة مبادرات خلال التسعينات في محاولة لإدخال هذه السياسة حيز التنفيذ ودفعها من الأمني إلى الدفاعي، كان من أبرزها إنشاء قوة العمليات الأوروبية السريعة (Eurofor)، والفرقة الفرنسية الألمانية بقوام 50 ألف جندى، والتى اعتبرتها باريس آنذاك نواة لجيش أوروبى. وفي عام 2018 م، جدد الرئيس ماكرون الدعوة الفرنسية لتأسيس جيش أوروبي موحد، بعيد عن حلف شمال الأطلسي، ومستقل عن أي نفوذ أمريكي، إنطلاقأ من أن الولايات المتحدة لن تحترم الأوربيين كحلفاء إلا إذا كانت شؤونهم الدفاعية ذات سيادة، على حد قوله، ووصف الناتو في أكثر من مناسبة بـ"الميت سريرياً". وأقترح ماكرون تشكيل أول وحدة عسكرية بقوام 5 آلاف جندي، مدعومة بسفن وطائرات حربية ودبابات ومدرعات وأسلحة ثقيلة، يُطلق عليها اسم "قوة الدخول الأول". ونال المقترح موافقة 13 دولة أوروبية، منها ألمانيا، وخصص الاتحاد الأوروبي في ميزانيته بنداً لتفعيل جيشه، بهدف نقل الاتحاد من قوة اقتصادية إلى قوة عسكرية أيضاً تكون قادرة على القيام بمهمات عسكرية تحت مظلة أوروبية خالصة. كما دعا ماكرون في أبريل الماضي إلى تبني مبدأ الأفضلية الأوروبية، وإعطاء الأولوية للموردين الأوروبيين في شراء المعدات العسكرية، وتطوير الصناعات الدفاعية الأوروبية وإطلاق برامج تسلح أوروبية.
يتزامن هذا مع الضغوطات الناجمة عن زيادة المساهمات المالية للدول الأعضاء إلى 2% من ناتجها المحلي الإجمالي، وهى الدعوة التى وافقت الدول الأعضاء عليها منذ عام 2006م، وشدد عليها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عقب وصوله إلى البيت الأبيض عام 2017م، معتبراً أن العلاقات بين واشنطن ودول الحلف "غير منصفة" حيث تساهم الولايات المتحدة بنحو 90% من ميزانية الناتو، ووصل الأمر حد تلويح ترامب بالانسحاب من الحلف، الأمر الذي اعتبره البعض ابتزاز للشركاء الأوروبيين ليس فقط لزيادة نسبة مساهمتهم في ميزانية الحلف، ولكن لحمل دول الحلف على شراء المعدات والأسلحة الأمريكية ضمن الترويج لمبادرة "اشتروا المنتج الأمريكي"، التي تهدف للتشجيع على إبرام المزيد من صفقات الأسلحة، وهو ما شكل ضغطاً على عدد من دول الحلف الأقل ثراءً وتلك التى تواجه صعوبات اقتصادية، وأشاع أجواء من التوتر والارتباك بين حلفاء الولايات المتحدة. وفي 17 يونيو الجاري أعلن ستولتنبرج أن 20 فقط من أعضاء الحلف الـ 32 حققت الهدف المحدد للإنفاق الدفاعي، في ضوء ذلك تراجع إسهام الولايات المتحدة إلى 67% من الإنفاق العسكري المشترك، الذي قُدر بحوالي 1.1 تريليون دولار في عام 2023م.
ويمتد الشد والجذب داخل الحلف إلى اختيار الأمين العام الجديد للحلف بعد انتهاء ولاية ستولتنبرج الثانية في أكتوبر 2022 م، دون تعيين خليفة له حيث تتوافق معظم دول الناتو على فريدريكسن، رئيسة الوزراء الدنماركية، في حين تعارض بولندا يساندها عدد من الدول الأعضاء اختيار أمين عام من دول الشمال التى شغلت المنصب لما يقرب من عقدين، وتصر على اختيار شخصية من دول الجناح الشرقي وتطرح رئيسة وزراء إستونيا، كايا كالاس، كبديل. إلا أن العديد من الدول الغربية تتخوف من أن تنظر موسكو إلى ذلك باعتباره "عملاً استفزازياً" ومؤشراً على عزم الحلف التصعيد معها لما هو معروف من عداء شديد بين دول الشرق في الناتو وروسيا.
- صعود اليمين الشعبوي والحراك الشعبي المعارض للناتو:
تشهد أوروبا تحولات سياسية هامة لصالح اليمين الشعبوي الذي فرض نفسة على قمة السلطة في إيطاليا والمجر وكاد أن يفعل في فرنسا، كما أصبح رقماً هاماً في معادلات السلطة بألمانيا، وأكدت انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة في يونيو 2024 م، ذلك، حيث أحرز اليمين الشعبوي تقدماً ملحوظاً، كان أوضح ما يكون في فرنسا حيث فاز بأكثرية واضحة تمثل ضعف ما حصده حزب الرئيس ماكرون. وقد كان ذلك انعكاساً لحالة عدم الرضا التي تجتاح الشارع الأوروبي مع ارتفاع معدلات التضخم خاصة أسعار الطاقة والغذاء على خلفية الأزمة الأوكرانية، مما أدى إلى اندلاع مظاهرات عدة في لايبزيج ومدن أخرى بألمانيا وفي فرنسا وإيطاليا وأسبانيا وبروكسل وغيرها ضد الناتو وإمداد أوكرانيا بالسلاح، ووصل الأمر إلى المطالبة بالانسحاب من الناتو.
إن التحديات السابقة التى تواجه الناتو أثرت دون شك على أولوياته وفاعلية العديد من البرامج والمبادرات التى طرحها، ومنها مبادرة أسطنبول، نتيجة المتغيرات الإقليمية والدولية المتسارعة وضبابية الأحداث والتطورات في أحيان كثيرة.
مبادرة إسطنبول.. حصاد عقدين:
في 28 يونيو 2004 م، طرحت الولايات المتحدة مبادرة إسطنبول كمكان للحوار المتوسطي بهدف ربط دول منطقة الشرق الأوسط "الموسع" وخاصة دول الخليج العربي بحلف الناتو، والعمل معاً لإقرار الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي. وجاء في صدارة المبادرة التأكيد على أهمية إحراز تقدم نحو حل عادل ودائم وشامل للصراع الإسرائيلي الفلسطيني وإيجاد اتفاق سلام شامل على كل المسارات بما فيها المسار السوري الإسرائيلي واللبناني الإسرائيلي، والمسؤولية المشتركة والمصالح المتبادلة للحلف ودول المنطقة، وأن المبادرة قيمة مضافة تمكن الناتو من توفير مساهمة مهمة في مجال تعزيز الأمن والاستقرار الإقليميين من خلال التزام أطلسي جديد مع المنطقة، والدعم ضد التهديدات الإرهابية، والتعاون العسكرى عبر التدريبات المشتركة والتأهيل لمحاربة الإرهاب والتبادل الفعال للمعلومات والتعاون البحري، ومواجهة التهديد الذي تمثله أسلحة الدمار الشامل وسبل نقلها، والتعاون في مجالات الخطط المدنية للطوارئ.
فيما يتعلق بالتعاون العسكرى والتدريب والتدريبات المشتركة فإنها تسير بوتيرة جيدة على مدى العقدين الماضيين في إطار التعاون بين دول مجلس التعاون الخليجى والناتو، ومن أهمها تدريبات "عزم النسر"، كما تم تأسيس المركز الإقليمي لحلف شمال الأطلسي-مبادرة إسطنبول للتعاون في عام 2017م، بمدينة الكويت، لتعزيز التعاون بين الجانبين. وهو أول مقر لحلف الناتو في دولة من غير أعضائه، إلى جانب كونه مقرًا تدريبيًا يقوم من خلاله ممثلو الحلف بمهام تدريبية واستشارية تخصصية في المجالات الفنية للجهات الحكومية في الكويت ودول الخليج الأعضاء في مبادرة إسطنبول للتعاون. وحتى عام 2019 م، جرى تدريب 889 عنصرًا من دول الخليج، واستقبل المركز أكثر من 200 مدرب، وعُقدت فيه أكثر من 24 دورة تدريبية مختلفة.
من ناحية أخرى، لم تنجح مبادرة إسطنبول في تحقيق مجموعة من أهدافها، أبرزها:
- استهدفت المبادرة بالدرجة الأولى دول الخليج العربى، إلا أن أربع دول فقط انضمت لها عام 2005 م، وهى البحرين والكويت وقطر والإمارات، في حين تشارك عمان والمملكة العربية السعودية في أنشطة مختارة ضمن إطار المبادرة، ومن ثم لم تحقق الأخيرة أهدافها بالكامل من حيث العضوية.
- لم يتم إحراز أى تقدم نحو التسوية السلمية للصراع الفلسطيني / الإسرائيلي بل تدهورت الأوضاع وانزلقت لمواجهات خطيرة تهدد الأمن الإقليمى والدولى.
- رغم الالتزام الأطلسي مع دول المنطقة أخفق الناتو في ضمان أمن دول الخليج في حالات عدة، فلم يستطع وقف تطور القدرات النووية الإيرانية، أو تقديم الدعم الواجب للبحرين خلال أزمة احتجاجات 2011م، وكذلك لمواجهة الهجمات الإرهابية على الإمارات والسعودية، وتدهور الأمن والاستقرار في اليمن ومنطقة البحر الأحمر.
هذا في الوقت الذي يبدو الناتو الطرف الأكثر استفادة من المبادرة حيث تساهم دول الخليج الأعضاء في مبادرة إسطنبول بفاعلية في دعم عمليات الناتو، فقد ساهم شركاء مبادرة إسطنبول للتعاون في العديد من العمليات والمهام التي يقودها الحلف. على سبيل المثال، ساهمت البحرين في قوة المساعدة الأمنية الدولية (إيساف) في أفغانستان. ووقعت الكويت أول اتفاقية عبور على الإطلاق في الخليج مع الناتو عام 2012، مما يسمح بحركة المعدات العسكرية عبر البلاد؛ وهي أيضًا جزء من آلية الوعي المشترك وتفادي التضارب (SHADE)، وهي مبادرة دولية لمكافحة القرصنة في المحيط الهندي. وشاركت قطر في عملية الحامي الموحد في ليبيا عام 2011م، وساهمت الإمارات بشكل كبير في عمليات الناتو ومهماته المختلفة، ونشرت قوات العمليات الخاصة في أفغانستان كجزء من عملية الحرية الدائمة، التي بدأت في عام 2003م، وانضمت إلى قوة المساعدة الأمنية الدولية (إيساف) في عام 2008م؛ وشاركت في عملية الحامي الموحد عام 2011م. كما أن البحرين والإمارات عضوان في مبادرة التشغيل البيني للناتو وينشطان في برنامج العلوم من أجل السلام والأمن، ويشاركون ويساهمون في الدورات التدريبية بكلية دفاع الناتو في روما، إيطاليا، بما في ذلك دورة التعاون الإقليمي للحلف، والتي تهدف إلى ربط القضايا التي تهم كل من دول المتوسط ومبادرة إسطنبول للتعاون والناتو، وتطوير التفاهم المتبادل والتواصل. كذلك تتعاون دول مبادرة إسطنبول مع قوات الناتو في التدريبات التي ينظمها مركز تنسيق الاستجابة للكوارث الأوروبية الأطلسية التابع للناتو.
على الأرجح ستعزز التحديات التى تواجه الناتو من التوجه نحو دعم دول مبادرة أسطنبول للحلف أكثر من دعم الأخير لها حيث يسعى الناتو إلى توظيف كل قدرات الحلفاء والأصدقاء لخدمة أجندته الأمنية والتخندق إلى جانبه في مواجهته العالمية لروسيا والصين، وفق رؤية الناتو للتهديدات الأمنية الإقليمية والدولية، التى من الواضح أنها لا تتطابق بالضرورة من حيث الأبعاد والأولويات مع دول المبادرة.