ما لفت انتباه العالم مؤخرًا هو انعقاد محكمة العدل الدولية وهي المحكمة الأهم في العالم للنظر في الدعوى التي أقامتها دولة جنوب إفريقيا ضد إسرائيل وساندتها الدول العربية و50 دولة حول العالم، حيث قدمت هذه الدول مجتمعة مرافعات أمام المحكمة في لاهاي تدين الممارسات الجنائية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين المدنيين العزل ومعظمهم من النساء والأطفال وكبار السن منذ السابع من أكتوبر الماضي، هذه الجرائم التي اعتادت عليها إسرائيل ضد الفلسطينيين منذ احتلالها الأراضي الفلسطينية، وألفتها الدول الكبرى صاحبة "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي ولم تحرك لها ساكنًا، بل تساند إسرائيل وتدعهما بالسلاح والعتاد علنًا دون وخزة ضمير ، أو إقامة أي وزن للرأي العام العالمي أو المجتمع الدولي، خاصة أمريكا التي دأبت على تبني جميع مواقف وجرائم إسرائيل منذ إعلان قيام هذا الكيان ثم اغتصابه للأراضي العربية في حرب يونيو 1967م، حتى بعد أن تجلت الوحشية الإسرائيلية في حرب غزة المستمرة منذ قرابة عام دون هوادة، هذه الحرب التي حركت الرأي العام العالمي، بل هزت المجتمع الأمريكي من الداخل وحشدت طلاب الجامعات الأمريكية ضد سياسة الولايات المتحدة تجاه إسرائيل ورفض ما تقوم به الأخيرة في قطاع غزة، مما كشف إبحار الإدارات الأمريكية المتعاقبة ضد الرأي العام الأمريكي وممولي الضرائب الأمريكيين، بل في زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لواشنطن في 24/7/2024م، وفي ذات اللحظة التي يستقبله الكونجرس بالتصفيق الحار ، كانت جموع من الأمريكيين تقف أمام الكونجرس رافضة لسياسات وجرائم نتنياهو ضد الشعب الفلسطيني ،ما يؤكد عدم إقامة الإدارة الأمريكية والكونجرس أي وزن للشعب الأمريكي.
وفي هذه المرحلة التاريخية الهامة اجتمعت عدة عوامل حفزت العالم لاختراق حاجز الصمت ودفعت محكمة العدل الدولية لإدانة إسرائيل بأقوى القرائن القانونية والأدلة الدامغة وغير المسبوقة في تاريخ المحكمة، حيث هناك تغير في المعطيات الدولية، ففي الوقت الذي تمارس فيه إسرائيل أبشع الجرائم ضد الفلسطينيين، يصمت الغرب على هذه الجرائم في حين يصطف إلى جانب أوكرانيا وكأن شيء لم يكن في غزة ،مما أوغر صدر الرأي العام العالمي، ويحدث ذلك أيضًا والعالم يتجه إلى التخلص من نظام القطب الواحد وإنهاء الحقبة الأمريكية المسيطرة على العالم، وبروز أقطاب جديدة بما في ذلك أقطاب عربية رافضة لما يحدث من تعسف ضد الحقوق الفلسطينية، وأيضًا في ظل عالم يشهد ثورة اتصالات هائلة تنقل ما يحدث على الأرض في غزة لحظة وقوعه إلى كل مكان في العالم ما أدى إلى تحول في الرأي العام العالمي بما فيه الغربي إلى مساندة القضية الفلسطينية وتغير مواقفه لأول مرة بهذا القدر الكبير جدًا وهذا ما تنقله القنوات الفضائية لحظة بلحظة، ومع كل ذلك مازالت الإدارة الأمريكية ومعها حكومات أوروبية تمضي في غيها القديم مع التغاضي عن التحولات التي يعيشها العالم والتي أوشكت على سحب البساط من تحت أقدام أمريكا والغرب.
وبعد أن فاض الكيل من الممارسات الإسرائيلية اصطف قضاة محكمة العدل الدولية في سابقة غير معهودة ليسجلوا رأيًا تاريخيًا يقر بأن إسرائيل تمارس جرائم حرب، وجرائم إبادة جماعية، وجرائم ضد حقوق الإنسان في غزة، بل فندت المحكمة ادعاءات إسرائيل "بأن ما تقوم به هو للدفاع عن النفس" وبنص القانون الدولي الذي لا يجيز للاحتلال حق الدفاع عن النفس، بل أكدت المحكمة أن ما يرتكبه الاحتلال في غزة هو جرائم تقع تحت طائلة القانون الدولي، كما انتقلت المحكمة إلى تجريم الجدار الإسرائيلي العازل، وطالبت بتفكيكه، ودعت دول العام والمنظمات الدولية إلى عدم التعامل مع تداعياته غير الشرعية، وخلصت إلى مطالبة إسرائيل بوقف الحرب فورًا وإنهاء الاحتلال.
يتبقى على جامعة الدول العربية، والمنظمات الحقوقية العربية، واتحاد المحامين العرب، والإعلام العربي، استثمار ما صدر عن محكمة العدل الدولية في التاسع عشر من شهر يوليو الماضي لحشد الرأي العام الدولي، والضغط على الأمم المتحدة، والحكومات الغربية خاصة أمريكا عند إحالة هذه المقررات إلى الأمم المتحدة وعدم استخدام الفيتو ضدها في مجلس الأمن الدولي لتحقيق نقلة نوعية في تاريخ الصراع الفلسطيني / الإسرائيلي، والاستفادة من هذا الزخم الدولي والدعم غير المحدود للقضية الفلسطينية وأزمة غزة.