array(1) { [0]=> object(stdClass)#12962 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

التحول نحو الجمهورية: قراءة في سوسيولوجيا الأزمة الإيرانية

الثلاثاء، 01 آذار/مارس 2011

لا يزال السجال محتدماً داخل النظام السياسي الإيراني، وفي أوساط نخبته السياسية، إثر فوز أحمدي نجاد بولاية ثانية. فقد أدخلت الانتخابات التي جرت في 9 يونيو 2009 البلاد في أزمة هيكلية حادة من أشد الأزمات التي شهدتها إيران منذ ثورة 1979. وبدأت الأزمة كأنها احتجاج على نتائج الانتخابات التي أُعتقد أنها مزورة، وانصب مطلبها في البداية على رفض نتائج الانتخابات، ما لبثت أن تحولت إلى حركة شاملة أخذت في التطور والامتداد، وتطالب بإصلاح شامل، حتى مسّت مفاعيلها أسس النظام وبنيته، وأمست كاشفة لمجمل احتياجات المجتمع الإيراني، فهي تشكل لائحة مطالب ضرورية وتقريراً كاملاً يكشف عن تحولات في شرائح المجتمع الإيراني، وعن فصل جديد تمثل هذه الأزمة مقدمته.

رغم اختلاف المراقبين في وصفهم لما يجري في إيران: أزمة أم انتفاضة أم حركة اجتماعية أم ثورة، إلا أنهم متفقون على أن أسبابها ليست عرضية بل بنيوية، وكذلك مفاعيلها.

فواقع المشهد السياسي في إيران يشير إلى حراك اجتماعي غير مسبوق على الإطلاق منذ ظهور الجمهورية الإسلامية، وهي حالة ربما تشهد في المرحلة المقبلة صراعات سياسية أشد سخونة مما هي عليه الآن، قد تضع مستقبل الجمهورية الإسلامية أمام خيارات صعبة وغير مسبوقة. فالمعارضة الإيرانية كشفت عن عمق التناقضات المجتمعية الكامنة التي دفعت بها الانتخابات الأخيرة إلى السطح، فغدت بينة وواضحة، واستعادت عوامل مجتمعية وسياسية واقتصادية ليس من أجل التصدّي لعملية التزوير التي طالت الانتخابات الرئاسية فحسب، بل لكي تظهر حقيقة التآكل في النظام السياسي وتركيبته، فهي تجلّ لمفاعيل أزمات عديدة ومتداخلة تراكمت منذ عقود لم يستطع النظام بتركيبته وفلسفته السياسية القائمة معالجتها لأسباب عديدة منها داخلية وأخرى خارجية. فهناك انقسام في بنية المجتمع الإيراني ونخبته السياسية والثقافية، لذا فهي أزمة ممتدة.

وتستعرض هذه الدراسة الواقع السوسيوسياسي للأزمة الحالية وتداعياتها المحتملة ومفاعيلها على النظام السياسي الإيراني، وتنطلق من تساؤل رئيسي مفاده: هل ما يشهده الواقع السياسي في إيران يشكل بداية تغيير في النظام السياسي الإيراني والتحول نحو الجمهورية؟

إن الانتقال نحو النظام الجمهوري، بدلاً من حالة الازدواجية التي تكتسي النظام الإيراني، لابد بداية من خطوة ضرورية لذلك هي اعتلال النظام وتقويض بنيانه، من دون ذلك يصعب الحديث عن تدشين نظام جمهوري ديمقراطي محض في إيران، وحسم مسألة الازدواجية النظامية التي تجسد حالة تلفيق بين الديمقراطية والثيوقراطية.

ويستعرض غرايم جيل في كتابه (ديناميات السيرورة الديمقراطية والمجتمع المدني)، عوامل أربعة تكون حاسمة في كثير من حالات تغيير النظم. وهي: الأزمة الاقتصادية، التعبئة السياسية، الضغط الدولي وتفكك النظام.

أولاً: الاقتصاد السياسي لإيران

1- تحديات الاقتصاد الإيراني بين لا عقلانية الملالي وهيمنة الحرس الثوري:

تعاني إيران منذ سنوات من صعوبات اقتصادية كبيرة، فاقتصادها لا يزال يعتمد في الأساس على النفط وغلبة الطابع شبه الريعي على اقتصادها، ما يجعله عرضه لعدم استقرار حسب تقلبات السوق العالمي للنفط. فمعدل نموها الاقتصادي 2.6 في المائة عام 2009، ومعدل البطالة 11.8 في المائة، وعدد السكان تحت خط الفقر 18 في المائة، ومعدل تضخم 16.8 في المائة، ومعدل النمو السكاني 1.3 في المائة عام 2009. ورغم هذه الصعوبات الاقتصادية التي تكشفها هذه البيانات، نجد أن إيران منخرطة بالسياسة الإقليمية والدولية مما يزيد من الأعباء المالية لهذا الانخراط الواسع. فتشير التقارير إلى أن إيران تدفع ملايين الدولارات لحزب الله وبعض القوى التي تدور في فلكها، وتشير التقارير أيضاً إلى أن نجاد دفع 700 مليون دولار لشراء جزيرة في فنزويلا لقربها من الولايات المتحدة الأمريكية. وثمة تحديات يتوقع أن يواجهها أحمدي نجاد جراء تعهد بالبدء في خفض دعم الدولة المكلف للوقود والغذاء، وهي سياسة تغامر بزيادة التضخم. ناهيك عن السياسة الضريبية التي ترمي إلى رفع القيمة المضافة (المبيعات) بنسبة 70 في المائة والتي دفعت كبار التجار إلى الإضرابات احتجاجاً على هذه السياسات، بالإضافة إلى السياسة السكانية التي انتهجها نجاد، والتي ترمي إلى تشجيع النمو السكاني من خلال تشجيع الأسر على الإنجاب عن طريق مبادرة جديدة ترمي إلى دفع مخصصات مالية لكل عائلة عن كل طفل جديد ووضع حساب توضع فيه أموال لكل مولود يستطيع أن يحصل عليها عندما يبلغ سن الـ 18 عاماً. هذه السياسة لها مفاعيلها السياسية، فهي ترمي إلى كسب تأييد الطبقات الفقيرة والعاملة، وهما الطبقتان اللتان تشكلان القاعدة الاجتماعية التي يستند إليها الرئيس الإيراني الحالي. وهما الطبقتان المستفيدتان من هذه السياسة أكثر من غيرها. فضلاً عن ذلك، فإن تقديم الدعم لهاتين الطبقتين عن طريق منح قروض صغيرة ميسرة يكلف ميزانية الدولة أعباءً طائلة ليس لها مردود اقتصادي يعمل على تنمية الإنتاج.

كما أن إيران واحدة من أسرع دول العالم نمواً في سكانها، ويشكل الشباب من فئة 15-30 عاماً النسبة الأكبر بين أفراد الشعب، وحتى تتغلب إيران على مشكلة البطالة، عليها توفير ما يقرب من مليون فرصة عمل سنوياً. كل ذلك يزيد من الأعباء المالية مما يفاقم الأزمة الاقتصادية، وما يزيد من هذا التفاقم اعتماد الاقتصاد الإيراني على أسعار النفط وهي أسعارٌ غير المستقرة، مما يجعل أغلب السكان عرضة لتقلبات الدخل السنوي، ويترتب على ذلك اضطراب خطط تنظيم الأسرة سواء على المستوى الفردي أو الحكومي.

وواضح أن نجاد يستهدف الطبقات الفقيرة من سياساته تلك، من خلال منحهم النصيب الأكبر من ميزانية الدولية. وبالفعل فخلال فترة ولايته الأولى اهتم نجاد أكثر بالمناطق الفقيرة في الجنوب الإيراني وفي الأرياف، فكان يوزع مبالغ نقدية وقروضاً لإشباع المطالب المحلية.

وهكذا، فهناك تباين في توزيع الموارد المادية لصالح الطبقات الفقيرة من الناحية الاجتماعية، وفي الأرياف والجنوب من الناحية الجغرافية أو الإقليمية، على حساب الطبقة الوسطى والمناطق المدينية في طهران، مما ولد امتعاض الطبقة الوسطى التي تقطن في مدن طهران. كما أن الحصار الاقتصادي المفروض على إيران يؤثر في الطبقة الوسطى والتجار، ولا يؤثر في هاتين الطبقتين لأنهما ليستا مستهلكتين لسلع الرفاهية. وهكذا، فالمتضرر الحقيقي من جراء هذه السياسات النجادية هو الطبقة الوسطى ورجال الأعمال والتجار، مما أبطأ من وتيرة الإصلاحات الاقتصادية والخصخصة التي بدأها أسلافه.

إن سياسة نجاد الاقتصادية الرامية إلى تهميش الطبقة الوسطى ورجال الأعمال والتجار، والمدعومة من قبل الملالي والحرس الثوري الإيراني، تفسر لنا الحراك الاجتماعي الذي تشهد إيران من خلال الحركة الخضراء المتزعمة قيادة التغيير في النظام الإيراني، فهذه الحركة ترتكز على الطبقة الوسطى المتضررة من السياسة الاقتصادية لنجاد.

في موازاة ذلك، أشارت تقارير عديدة منشورة على شبكة الإنترنت إلى انتشار الفساد المالي والسياسي، وبتورط قيادات معروفة ومشهورة في الساحة السياسية الإيرانية في قضايا فساد، كما أن النظام نفسه اتهم بعض أعمدته بالفساد والاختلاس المالي، مثل رفسنجاني الذي أتهم في أكثر من عملية فساد مالي، كما أشار الرئيس نجاد إلى الفساد الاقتصادي الذي تم في عهد رئاسة رفسنجاني للجمهورية الإيرانية. ومن خلال متابعتنا للحملات الانتخابية وما أعقب نتائج الانتخابات لاحظنا كيف فضحت النظام الإيراني، وكيف قرعت النخب بعضها بعضاً، واتهمت بعضها بالتزوير والفساد المالي والسياسي، وهو ما يؤكد ما جاء في هذه التقارير.

وجدير بالاهتمام أن الطبقة الوسطى استفادت كثيراً من التحسن الاقتصادي الذي كان يطرأ على الاقتصاد الإيراني بين الفينة والأخرى. فهذا التحسن، وبخاصة إبان عقد التسعينات وتبوؤ رفسنجاني رئاسة الدولة، وما صاحبه من انفتاح إيراني على العالم، وتشجيع الاستثمارات والانفتاح الاقتصادي على الداخل أيضاً، فضلاً عن إعمار ما دمرته الحرب العراقية – الإيرانية، فهذا التحسن النسبي في الاقتصاد الإيراني زاد من متوسط معدل الدخل، ونمو طبقة متوسطة صغيرة، وهو ما نجم عنه تغيرٌ في القيم لدى الشرائح والطبقات الاجتماعية. فتشير أدبيات التحول الديمقراطي، التي ترتكز على المقاربة الاقتصادية، إلى أن النمو الاقتصادي يصاحبه تغير في القيم والاتجاهات السياسية، وتتخلق ثقافة سياسة ديمقراطية، ويصبح الأفراد أكثر تسامحاً واعتدالاً وأكثر عقلانية بخصوص السياسة. كما أن النمو الاقتصادي تصاحبه ضغوط على النظم السلطوية، لأن سيرورة النمو الاقتصادي تدفع نحو تغيير البنية الطبقية، أي نمو طبقة وسطى وبرجوازية وتجارية وصناعية. والمهم في هذا الإطار هو زيادة هجرة الريف إلى المدينة، فإحصائيات متنوعة ودراسات عديدة قدمها علماء السكان في الجامعات الإيرانية، تشير إلى ارتفاع نسبة الهجرة من الريف إلى المدينة، مما له انعكاسات على القيم السياسية فـ (أحماض التمدين تذيب القيم السائدة). هذه المتغيرات تدفع الأفراد نحو صقل المشاركة السياسية، ونشوء مجتمع مدني، وتغير الاتجاهات السياسية. كل ذلك يضغط باتجاه التغيير السياسي. ويفسر لنا هذا التحول الذي أصاب المجتمع الإيراني إبان عقد التسعينات نمو الطبقة الوسطى، والحراك غير المسبوق الذي تشهده إيران من خلال الحركة الخضراء.

2- المقاربة السياسية كمدخل للتغيير الاقتصادي

يكشف لنا هذا التحليل آنف الذكر، أن الاقتصاد الإيراني ليس في أزمة، لكنه يواجه صعوبات كبيرة، وهو في تراجع تدريجي ومستمر، وفي الأفق تبدو إيران كأنها عاجزة عن تحقيق أي تقدم سريع باتجاه النمو الاقتصادي، وعجزها أيضاً عن إيجاد فضاءٍ اقتصادي آمن وحر، وتحسين أوضاع الطبقات الاجتماعية، فضلاً عن عجزها عن تحقيق العدالة في توزيع الموارد، مصحوباً بلاعقلانية الملالي في إدارة الشأن الاقتصادي الداخلي، وسيطرة حرس الثورة على الحياة الاقتصادية. ذوهو ما يقود إلى ركود اقتصادي في المستقبل لاعتماد الاقتصاد الإيراني على النفط.

هذه الصعوبات تجعل البلاد في وضع حرج وفي غاية الصعوبة، حيث تدفع الأوضاع المتردية هذه الاقتصاد الإيراني نحو أزمات اقتصادية ، مما يزيد من اليأس الموجود داخليّاً. كل هذه الصعوبات تدفع نحو تزايد الانتقادات الداخلية لنظام الرئيس الإيراني أحمدي نجاد، ولها تداعيات سياسية كبرى على نظام الجمهورية الإسلامية نفسه. فالأزمة الإيرانية التي يعيشها النظام الإيراني تعبر بعمق عن حدة التناقضات المجتمعية، وسوء الإدارة الاقتصادية، فضلاً عن أفق لا يشي بالتفاؤل لصالح تحسين أوضاع البلاد.

ويبدو أن الإحباط المتكرر من جراء عدم تحسن الأوضاع الاقتصادية، دفع الحركة المناهضة للنظام والداعية للتغيير إلى قناعة مفادها: أن التغيير السياسي يوفر الآليات المناسبة لتحقيق الإصلاح الاقتصادي، فالمدخل السياسي وعلى وجه الخصوص الوصول إلى السلطة وانتزاعها عند الضرورة واستخدام أجهزتها بغية تغيير عمليات النظام، هو المدخل الذي تفرضه الضرورة إذا أراد الإصلاح أن يؤتى ثماره. وهكذا، فالهدف الأسمى للفاعلين الرئيسيين في الساحة السياسية في إيران الرامين إلى تغيير النظام هو الهيمنة على هياكل الدولة، لأن أهميتها حاسمة في توجيه العمليات الاقتصادية في اتجاه أكثر ملاءمة لمصالحهم، ومن ثم إعادة توجيه العمليات الاجتماعية.

خلاصة ذلك، أن ثمة في إيران صعوبات كبرى تكتنف وضعها الاقتصادي، لكنها لا ترتقي إلى مستوى الأزمة الاقتصادية التي يصعب علاجها في ظل النظام القائم، ومدخل علاج هذه الأزمة يدفع القوى الاجتماعية إلى السيطرة على جهاز الدولة وتوجيه العمليات الاقتصادية. فعدم ارتقاء الوضع الاقتصادي إلى مستوى الأزمة، يحول دون اعتلال النظام القائم، ويدشن بدلاً منه نظاماً جمهورياً محضاً مؤسساً على المبادئ الدستورية العامة والمتعارف عليها في النظم الدستورية المستقرة.

ثانياً: التعبئة السياسية

بدأت المعارضة الإيرانية صلبة ومتماسكة في بداياتها، وصاحبتها تعبئة واسعة في المدن خاصة، حتى بدا للمراقبين أن النظام الإيراني أوشك على التحلل، لكن عبر مرور الزمن بدا واضحاً أن ثمة تراجعاً في التعبئة السياسية. وثمة عدة عوامل وراء هذا الخفوت في صوت المعارضة، أهمها أن قيادات المعارضة هم جزءٌ من نخبة النظام ومن أبنائه وتربطهم علاقات وشائجية ومصاهرة، وهي عوامل تحول دون وصول الأزمة إلى مستوى لا يمكن السيطرة عليه، كما أن النظام الإيراني الذي يتسم بالشمولية والهيمنة الواسعة على المجتمع لم يترك إلا فراغاً محدوداً لحركة المعارضة، دع عنك القمع والتنكيل اللذين مارسهما النظام، فضلاً عن الضغوط الدولية المؤيدة للمعارضة والتي أحرجت الأخيرة وأخذت تبرر باتهامها بالعمالة للقوى الأجنبية، وأخيراً طبيعة النظام الإيراني الشمولي في جوهره، فهو غير مسؤول أمام الشعب الذي يحكمه، تظهر عدم المسؤولية هذه خلال فترة التوترات والأزمات بشكل خاص، فيتفلّت النظام من كل رقابة مؤسسية، كما أن البنية الجوهرية لفلسفة ولاية الفقيه كما يجسدها الدستور لا تعطي مجالاً للمعارضة والانشقاق.

إلى جانب ذلك، فإن التعبئة السياسية لم تكن شاملة، فاقتصرت على سكان المدن، ولم تشمل الريف والقرى والمناطق الهامشية في إيران، وهي المناطق المؤيدة لسياسات نجاد الاقتصادية، كما أن خطاب المعارضة لم يقنع هذا الفئات الاجتماعية ولم يشملها. وعموماً إن هذه التعبئة السياسية للمعارضة استطاع النظام السيطرة عليها بوسائل الإكراه التي يحوزها، كما قام النظام بتعبئة سياسية مضادة لإظهار قاعدته الاجتماعية المساندة له بغية تفريغ التعبئة المضادة له من مضمونها. وهذا يعني أن النظام له هيئاته التنظيمية والمؤسسية وهو ما يحول دون حدوث تعبئة سياسية شاملة مضادة للنظام. فمن دون التعبئة السياسية الشاملة يصعب إحداث تحولٍ جذري في النظام. لكن المهم في هذا السياق أن محاولات تحكّم النظام الإيراني في الهيئات السياسية والتنظيمية الاجتماعية ومعارضته لفكرة الأحزاب السياسية كحامل للنشاط السياسي، لا تنجح دائماً وإن نجحت عن طريق القسر والإكراه فهو نجاحٌ نسبي وغير مضمون الاستمرار، وخاصة في ظل المصاعب الاقتصادية التي ناقشناها سابقاً، والمعوقات التي تعيشها إيران بسبب دخولها مرحلة تحول اجتماعي وسياسي طويل الأمد ذات أبعاد كبيرة ومهمة، ما يولد قوة سياسية جديدة لم يألف النظام بمؤسساته وتركيبته الحالية التعامل معها، لأن مصالحها ومداركها مختلفة جوهرياً عن مصالح القابعين في قمة الهرم السياسي ومداركهم.

وفي هذا الإطار، يؤخذ على المعارضة الإيرانية عجزها عن تأطير أهدافها ومأسسة كيانها وفق أهداف واضحة ومتماسة، كما أنها لم تبلور أيديولوجية قادرة على التعبئة الشاملة لكل طبقات المجتمع والأقاليم الجغرافية، وبالتالي فهي بلا تصور واضح يجسد رؤية شاملة. ووفق ذلك يصعب الحديث عن تغيير بنيوي في النظام تدفع إليه المعارضة الحالية، كما أن التعبئة السياسية التي ترمي إلى هدم النظام القائم بالضرورة تنطوي على درجة من التعبئة تسهم فيها قوى لا علاقة لها بالنخبة الحاكمة، وتحفزها الأزمة الاقتصادية. وهي متغيرات غير متوافرة بشكل كامل في المعارضة الإيرانية: ليست هناك أزمة اقتصادية حادة، وتربط قيادات المعارضة علاقات قوية بالنظام كما سبق الإشارة، وتفتقر إلى التعبئة الشاملة. وهي كلها عوامل تحول دون اعتلال النظام على الأقل في المستقبل المنظور.

ثالثاً: تفكك النظام

نقصد بتفكك النظام وجود انقسامات حادة داخل صفوفه، مثل هذه الانقسامات تشكل عاملاً مهماً في سيرورة اعتلال النظام، كما يذهب جيل،لأن الصراع الداخلي يفقد تماسك القاعدة الاجتماعية التي يستند إليها النظام. فـ (كلما كانت الوحدة أو آليات المحافظة على الوحدة (بما في ذلك إشكاليات خلافة القيادة) وتنسيق المصالح داخل النخبة الحاكمة أقوى كانت آفاق صمود النظام ونجاته أقوى). ويشترط في هذا الانقسام والصراع العجز عن حله ضمن الأطر المؤسساتية والدستورية القائمة، تصاحبه حالة من الركود الشامل لكل وظائف النظام. وبالتالي فالانقسامات مهمة وضرورية في دفع النظام الإيراني نحو التحول إلى النظام الجمهوري، فمن دون تفكك البنى المؤسساتية والدستورية للنظام الحالي يصعب الحديث عن نجاح هذا التحول. وثمة عاملان قد يؤديان إلى إضعاف النظام الإيراني ومن المحتمل أن يؤسسا لبداية اعتلال النظام وهما: شرعية النظام وانقسام النخب السياسية.

وبالإشارة إلى العامل الأول، فقد تأسست الجمهورية الإسلامية على شرعية وعدها بتحقيق نظام إسلامي يجمع بين الديمقراطية والإسلام حسب خصوصية المذهب الشيعي، فواقع الحال اليوم بعد مرور 31 عاماً على الثورة، يؤكد إخفاق النظام في تحقيق هذا التركيب، وهو ما ولّد وجهات نظر سياسية مختلفة ومتباينة إلى حد التناقض، حيث إن فقدان الشرعية ينسف الأساس الذي بنى عليه وجود النظام ويجعله بالتالي عرضة للسقوط. وبخصوص العامل الثاني فواقع الحال أيضاً يشير إلى أن الانقسام أصاب عمق النظام الإيراني، وهو انقسام بين النخبة الحاكمة نفسها. ومن الأمور التي تتطلب الحسم في قضايا مصيرية مهمة من قبيل هل تحتاج إيران اليوم إلى مزيد من تكريس الخميينة أو تخفيفها من أجل البقاء؟ وما هو مستقبل موقع المرشد بعد خامنئي؟

لكن رغم عدم اعتراف النظام بالمعارضة واعتبارها نتوءاً يجب التخلص منه، وكذا الانقسام داخل صفوف النخب السياسية، إلا أن النظام سمح ببعض التنفيس والتعبير عن الاختلاف حتى لا يصور النظام كأنه ضد الديمقراطية، وللحيلولة دون مفاقمة الإحباط وزيادة السخط والنقمة لدى المعارضة.

ولذلك، وبينما يمر النظام الإيراني بمرحلة تأزم تؤثر سلباً في تماسكه ووحدة صفوفه، إلا أن ثمة وجوداً لأساليب مؤسسية لحل النزاعات والانشقاقات، رغم ضعفها البين وقدرتها المحدودة وهو ما تمظهر في الأزمة الحالية، بيد أنها موجودة وقد تقود في النهاية إلى حل الانشقاقات داخل صفوف النظام والنخب السياسية، إذا سمح بطرح الاختلافات بشكل شفاف وصريح، وحل الانشقاقات داخل النظام، دون ذلك سوف يواجه النظام خيارات محدودة، وإذا لم يكن ثمة مجال للرأي الآخر فإن أي إعلان له سيكون بطبيعته ضد النظام، مما يفاقم حالات التوجس والضغينة والإحساس بالغبن واليأس مما هو قائم.

رابعاً: الضغط الدولي

ثمة مقولة في علم الاجتماع السياسي تذهب إلى أنه كلما كان النظام قوياً ومتماسكاً من الداخل كان أكثر قدرة وفاعلية على مواجهة العقبات والعوائق الخارجية، والعكس صحيح. وهكذا، فإن اعتلال النظام لا يتوقف على العوامل الداخلية فحسب، فالعوامل الدولية يمكن أن تسهم في اعتلال النظام السلطوي. ورغم أن النظام الإيراني لا يعاني من حالة تبعية للخارج، ويتمتع بدرجة كبيرة من الاستقلالية بمفهومها النسبي، بيد أنه حساس تجاه بيئته الخارجية. فإيران تتميز بتعاظم تأثير النسق الدولي على نظامها السياسي وكذا سياستها الخارجية، فهي تتأثر بشكل كبير بالواقع الدولي ومعطياته، وخاصة أن الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عالمية تولي اهتماماً كبيراً بإيران. وهكذا، فمن غير المرجح أن يسقط النظام الإيراني بفعل الضغوط الدولية، ويكفي للتدليل على ذلك أن النظام نجح في معركة البقاء مدة 31 عاماً من عمر الثورة الإيرانية. لكن من المحتمل إذا تضافرت ضغط العوامل الداخلية مع ضغط دولي مكثف وقوي أن تسهم في اعتلال النظام. وقد يحدث هذا السيناريو مستقبلاً، فمن المحتمل أن تؤدي العقوبات المفروضة على إيران إلى أزمة اقتصادية، يصاحبها هبوط في أسعار النفط، وترافقها تعبئة محلية واسعة النطاق، وانقسام داخل النظام. لكن الدينامية المحلية هي التي تسقط النظام في النهاية. وفي الحقيقة رغم كل ما يبدو من اضطرابات محلية، وصعوبات اقتصادية، وانقسامات سياسية، وتباينات في وجهات النظر داخل إيران، إلا أنه لم يتوفر البديل القادر على أن يحل محل النظام القائم، مما يشكل معوقاً أمام التحول نحو الجمهورية.

ومن جانب آخر ليس الضغط الدولي محصوراً في الجانب السياسي والاقتصادي، فثمة ضغط أيديولوجي يتمثل في أيديولوجيا حقوق الإنسان، وكذا مبادئ الديمقراطية التي أضحت أيديولوجية النظام الدولي، وبالتالي لا تستطيع إيران أن تسير في اتجاه يخالف سيرورة النظام الدولي الذي ينحو صوب الديمقراطية، وحين اعتماد الديمقراطية أيقونة وقيمة عليا للنظام الدولي، واعتماد مقياس أخلاقي، وثقل الرأي العام العالمي آنذاك لن تستطيع إيران أن تسير في اتجاه مخالف لهذه السيرورة، مما يشكل ضغوطاً على النظام الإيراني.

الخلاصة

استعرضنا في ضوء التحليل السابق عوامل أربعة يعتقد أن توافرها وتضافرها قد يؤديان إلى اعتلال النظام السلطوي، وذلك حسب استقراء التجارب التاريخية في ما يطلق عليه أدبيات التحول الديمقراطي. وقد استعرضنا واقع الحالة السوسيوسياسة لإيران فكانت النتيجة أنه ليس هناك عامل ناضج ومكتمل البناء، فكل متغير من المتغيرات الأربعة التي تم فحصها تتوفر في إيران، لكن ليست بشكل كامل وناضج بل تتجلى بدرجات متفاوتة. نعم هناك صعوبات اقتصادية لكنها لم ترتق بعد إلى درجة الأزمة الاقتصادية الحادة، وهناك تعبئة سياسية واسعة، لكنها لم تصل إلى تعبئة سياسية شاملة إلى حد الثورة، وهناك انقسام داخل النظام، لكن يمكن السيطرة عليه ومعالجته في ظل النظام القائم، وهناك ضغط دولي مكثف على إيران، بيد أنه لم يصل بعد إلى مستوى التدخل العسكري أو الحرب، وهما الشكلان اللذان يؤديان إلى اعتلال النظام.

وفي ضوء هذه الخلاصة ليس هناك ما يشير إلى اعتلال النظام الإيراني في المستقبل المنظور. وهكذا، يصعب القول إن النظام يشهد تحولاً تجاه الجمهورية. ويبقى السؤال إلى أي مدى يمكن أن يحتفظ النظام الإيراني بقدرته على البقاء؟ فشرعية النظام ضعفت بسبب إخفاقه في إنجاز ما وعد به، واعتماده على الحرس الثوري وقوات البسيج لحماية نفسه، وهيمنة الأول على الوضع الاقتصادي. كما أن تماسك النظام أمر مشكوك فيه، فقوة النظام ذاته ودرجة تماسكه والمدى الذي وصلت إليه الصراعات داخل النخب الحاكمة، كلها عوامل مؤثرة في عملية التحول نحو الجمهورية.

وبالإشارة إلى الوضع الاقتصادي، فالمشكلة لا ترتبط بالصعوبات الاقتصادية ذاتها، لكن بتداعياتها الاجتماعية والسياسية. ونلاحظ أن تداعياتها ليست بالدرجة نفسها عند كل الطبقات الاجتماعية، أي أنها ليست عادلة، بفعل تحكم النظام في العمليات الاقتصادية وتوجيهها لصالح دعم الفئات المساندة له. فمثلاً، نجد أن نظام نجاد اعتمد سياسة اقتصادية شعبوية ترمي إلى دعم الطبقات الفقيرة والمهمشة، وبالتالي فهذه الطبقة لم تتأثر كثيراً بالصعوبات الاقتصادية في عهده بسبب تكفل نجاد رعاية مصالحها. أما الطبقة العليا فهي قادرة على أن تكفل ذاتها بما تملكه من موارد اقتصادية تحميها من تداعيات الأزمة، ويبقى وضع الطبقة الوسطى التي تملك موارد محدودة، ومما يجعلها أكثر حساسية للصعوبات الاقتصادية، وصاحبة المصلحة في التغيير السياسي، فهذه التركيبة المعقدة والمتشابكة والملتبسة تحول دون تحول بنيوي في النظام.

وبموازاة ذلك، يؤخذ على المعارضة الإيرانية أنها لم تصل بعد إلى مستوى البديل المقنع للناس، ولم تبلور أيديولوجيا قادرة على تعبئة سياسية شاملة تضم بين دفتيها كافة طبقات المجتمع الإيراني. وبالتالي ليس هناك ما يقنع الجماهير بأن التعويل على المعارضة هو الخيار الأنجع. ومن المحتمل أن الخوف من الفوضى وغياب البديل الناجز يصبان في مصلحة النظام القائم، ويضعفان من قوة المعارضة وامتدادها. لكن الجدير بالذكر أن فترات التوتر التي يعيشها الإيرانيون في حقبة ثائرة وحافلة بالقلق تمر بها القيم بنوع من التغيير لا يدرك مداه. وبالتالي لا يوجد معيار أو مقياس موضوعي لتقدير متى تنضج أو تتهيأ الشروط الميسرة لتحول النظام الإيراني نحو النظام الجمهوري وفق أسس ديمقراطية.

وعلى الرغم من أن التنوع السياسي- الاجتماعي والأيديولوجي، الممثل داخل الجهاز الحكومي، والذي يحول دون وصول التناقضات الاجتماعية إلى ذروتها، إلا أنه لعب دوراً في بقاء النظام واستمراريته، بيد أن استمرار هذه الوضعية ليس مضموناً، فكلما كان تمثيل الاختلاف والتنوع في النظام أكبر كانت ثمة صعوبات كثيرة تواجه عملية التكامل والوحدة، لصالح إمكانية بروز انشقاقات وبخاصة في وقت الأزمات والضغوط المحلية والدولية والصعوبات الاقتصادية. فالأزمة الحالية هي أزمة ممتدة، ولا يمكن إخمادها طوال الوقت، مما يؤدي إلى صعوبة السيطرة عليها في الأمد الطويل، لأن التغيير أصبح ضرورة حتمية، والبديل هو استمرار الصعوبات الاقتصادية الحادة والمشكلات السياسية المزمنة التي يعانيها النظام الإيراني.

مقالات لنفس الكاتب