إن مصطلح الأمن الغذائي من المفاهيم الحديثة نسبياً، حيث تم استخدامه لأول مرة عام ١٩٧٠م، بعد انتشار المجاعات حول العالم والمآسي التي مرت بها الدول الحديثة في آسيا وإفريقيا. وكان يعني في ذلك الوقت توفر الغذاء وإمكانية حصول الناس عليه. مع الوقت، والاهتمام الدولي بالموضوع، تطور مفهوم الأمن الغذائي وأصبح من أولويات الدول وعلى رأس اهتمامات المنظمات الدولية مثل منظمة الأغذية والزراعة الدولية (الفاو). هذه الأخيرة عرّفت الأمن الغذائي بأنه "توفير الغذاء لجميع أفراد المجتمع، بالكمية والنوعية اللازمتين للوفاء باحتياجاتهم بصورة مستمرة من أجل حياة صحية ونشطة." وقد بينت المنظمة أربعة ركائز لتنظيم الأمن الغذائي:
- التوفر: وتعني توافر كميات كافية من الغذاء بأسعار معقولة.
- الوصول: ويعني القدرة المادية والاقتصادية للأفراد للحصول على الغذاء.
- الاستخدام: ويعني الوعي الغذائي والقدرة على استخدام الغذاء بشكل صحي.
- الاستقرار: ويعني ضمان الحصول على الغذاء في كل الظروف.
ومما لا شك فيه أن الأمن الغذائي هام جداً للمجتمعات حيث لانعدام هذا الأمن نتائج سلبية من كافة النواحي: البيئية والاجتماعية والاقتصادية. فبيئياً يؤدي انعدام الأمن إلى زيادة الحاجة إلى الزراعة واستهلاك المياه والاحتباس الحراري. واجتماعياً ينتج عن انعدام الأمن الغذائي سوء تغذية لدى الأفراد وخاصة الأطفال مما يزيد الطلب على الرعاية الصحية ويؤثر سلباً على نشاطهم وانخراطهم في المجتمع. واقتصادياً يؤدي انعدام الأمن إلى ارتفاع نسب البطالة وارتفاع أسعار الغذاء ومن ثم تراجع الاقتصاد.
ولحل مشكلة الأمن الغذائي، قدمت منظمة الفاو مجموعة من النصائح للدول والمنظومة الدولية منها:
- التوسع في الأراضي الزراعية من خلال استصلاح الأراضي وتخفيف الزحف العمراني على الأراضي الزراعية.
- رفع الإنتاجية في العالم الثالث وتوزيع التكنولوجيا الزراعية وعدم حصرها لدى الدول المتقدمة والغنية.
- إعادة النظر في السياسات الزراعية بحيث يكون الهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي وليس تعزيز التجارة الدولية.
- تغيير أنماط الاستهلاك والتخفيف من الهدر والتحول إلى أنواع الأغذية التي تحتاج إلى مياه وأراضي أقل. واستغلال الثروة السمكية في البحار.
- تشجيع الشباب على الانخراط في العمل في الزراعة.
- التعاون الإقليمي باعتبار أن الأمن الغذائي مشكلة إقليمية تمس جميع الدول المتجاورة والمتشابهة في المناخ والتربة.
- التخطيط الاستراتيجي طويل الأمد.
على مستوى العالم، هناك تفاوت في الأمن الغذائي بين الدول والأقاليم. فالدول المتقدمة أكثر قدرة على توفير الغذاء لمواطنيها ومقيميها، من خلال تطوير أساليب الزراعة ومن خلال الاستخدام الأمثل للمياه والأراضي الزراعية. أما الدول الفقيرة فتبقى عرضة لتقلبات المناخ وتغيرات الأسعار العالمية.
بالنسبة لدول الخليج العربية فهي بشكل عام لا تعاني من نقص في الغذاء. فوفق مؤشر الأمن الغذائي العالمي، فإن دول مجلس التعاون الخليجي تقع بين أعلى المراتب على مستوى العالم. ففي المعدل، يعاني فقط حوالي ٥٪ من السكان من نقص الأغذية، وحسب تصنيف منظمة الفاو تعتبر آمنة غذائياً، بل من أكثر دول العالم أمناً في توفير وجودة وسلامة الغذاء. ولكن، على المدى البعيد، قد تعاني دول الخليج العربية من نقص في الغذاء، حيث تستورد دول مجلس التعاون الخليجي ٨٥٪ من احتياجاتها الغذائية. فقد بينت دراسات وإحصائيات مجلس التعاون الخليجي أن ٩٣٪ من احتياجات دول المجلس من الحبوب تأتي عن طريق الاستيراد. وتستورد دول الخليج العربية ٦٢٪ من احتياجاتها من اللحوم و٥٦٪ من الخضروات. إن الاعتماد الضخم على الاستيراد يساهم إلى حد كبير في تحقيق الأمن الغذائي على المدى القصير. وتساهم الحكومات في دول الخليج العربية في تحمل كلفة الغذاء من أجل توفيره لكافة الأسر. إلا أن هذه السياسة سيكون لها آثار سلبية على المدى البعيد. فسلاسل الإمداد قد تتعرض للاضطراب نتيجة لظروف مختلفة، والأسعار قد تتقلب نتيجة لظروف العرض والطلب. لذلك من المهم جداً لدول الخليج أن تتجه لسياسة الاكتفاء الذاتي. وقد عملت دول مجلس التعاون على صنع سياسات تسعى لتحقيق هدف الاكتفاء الذاتي من خلال تكوين سياسة تقوم على تشجيع الزراعة. فمنذ عام ١٩٩٦م، عمل المجلس على تحقيق التكامل الزراعي بين دول المجلس وفق استراتيجية موحدة تعتمد على الاستخدام الأمثل للموارد المائية وتوفير الأمن الغذائي من مصادر وطنية، وزيادة الإنتاج وتشجيع المشاريع المشتركة مع القطاع الخاص. كما عمل المجلس منذ العام ٢٠٠٩م، إلى تكليف الهيئة الاستشارية الخاصة بدراسة الأمن الغذائي والمائي بدراسة وضع الأمن الغذائي في دول المجلس ووضع المرئيات بشأنه. كما تم تكليف اللجنة بوضع دراسة حول زيادة مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي، وذلك من خلال وضع إطار عام لحماية المحاصيل الزراعية وتنميتها بهدف تشجيع الزراعة وغيرها من مصادر الدخل المتجددة. بالإضافة لذلك، فقد قامت دول المجلس بتكوين بحوث ودراسات مشتركة تتعلق بمصائد الأسماك والربيان وزراعة النخيل.
مع أن هذه السياسات والإجراءات كان لها آثار إيجابية على جميع دول المجلس وساهمت إلى حد كبير في تحسين ظروف الزراعة في بعض الدول، إلا أن هناك عدد من التحديات والصعوبات الواجب التغلب عليها وهي: -
- النمو السكاني الضخم فعدد سكان دول المجلس قد وصل إلى حوالي الستون مليون نسمة مقارنة بـ 25،8 % نسمة عام 2005م، هذا النمو الضخم والذي من المتوقع أن يستمر في الازدياد في الأعوام المقبلة، يترافق مع نمو ضعيف بالإنتاج الزراعي وهجرة متواصلة من الريف إلى المدينة.
- قلة المياه. تعتبر دول الخليج العربية من أكثر مناطق العالم جفافاً وندرة في المياه. فتبلغ حصة الفرد من المياه حوالي 100 م3 سنوياً مقارنة بالمتوسط العالمي البالغ 600 م3. لذلك تعتمد دول المجلس إلى حد كبير جداً على تحلية مياه البحار، وهذه، ذات تكلفة عالية جداً. فتشير إحدى الدراسات أن تكاليف توفير المياه حتى عام 2025م، ستصل بالإجمالي إلى حوالي 300 مليار دولار. فبالتالي ستكون المياه المتوافرة للزراعة ذات تكلفة عالية جداً، مما سيشكل تحد صعب أمام توفير الغذاء محلياً.
- التدهور المستمر للرقعة الزراعية لأسباب التصحر وانجراف التربة والزحف العمراني. فبلغت نسبة الأراضي المستغلة عام 2021م، فقط 0،4% من مجموع مساحة دول مجلس التعاون الخليجي. وبسبب الزيادة السكانية المضطردة وصغر مساحة بعض الدول، فإن الزحف العمراني يشكل أكبر تهديد للرقعة الزراعية في دول المجلس.
- التغير المناخي. فنتيجة لاعتماد دول المجلس على التحلية في توفير المياه وما يترتب عليها من زيادة في ثاني أكسيد الكربون في الجو وارتفاع درجات الحرارة وتراجع في كميات الأمطار. فقد بينت دراسة لمركز الإمارات للسياسات للعام 2024م، أن دول المنطقة تعاني من "شح المياه والتصحر، وفترات طويلة من الجفاف، وارتفاع مستوى مياه البحر. وفقدان التنوع البيولوجي، وظروف جوية قاسية مثل العواصف الرملية والأعاصير."
طبعاً هذا التغير المناخي يشكل تحدياً في عملية استصلاح الأراضي القابلة للزراعة والاستفادة منها في تحقيق أمن غذائي ذاتي.
- تغير العادات الغذائية والتي أصبحت تعتمد على اللحوم والتي تحتاج إلى زراعة الأعلاف بدلاً من الخضروات والاحتياجات الغذائية الأخرى للسكان في دول المجلس. هذا بالإضافة إلى عادات هدر الغذاء الناجم عن تقديم وجبات أكبر من احتياجات الأفراد.
- الصراعات والحروب. إن منطقة الشرق الأوسط بشكل عام محفوفة بمخاطر النزاعات والحروب فبالإضافة إلى الصراع العربي الإسرائيلي، هناك أيضاً النزاعات الحدودية بين الدول العربية والصراعات الداخلية في عديد من الدول، بالإضافة إلى النزاع على الموارد كالخلاف المائي بين مصر وإثيوبيا. يترتب على هذه النزاعات والصراعات آثار سلبية على الأمن الغذائي. فالصراعات لها آثار عكسية على الاستثمار، فبالتالي استثمارات القطاع الخاص المحلية والأجنبية في الزراعة ستنخفض. بالإضافة إلى أن إمدادات الغذاء تأتي إلى دول المجلس من خلال ممرات بحرية كمضيق هرمز ومضيق باب المندب والذين تعرضا إلى عدد من الاحتكاكات السياسية والاضطراب في السنوات الأخيرة.
هذه التحديات تبين أن أي سياسة أو استراتيجية تتعلق بالغذاء ستبقى محفوفة بالمخاطر مهما بلغت درجة العقلانية والمنطقية لتلك السياسات. فبالتالي، على دول مجلس التعاون التكيف مع الظروف والتحديات الصعبة التي تواجهها. ولكن، هناك العديد من المقومات لدى دول المجلس والتي تشكل فرصاً قيمة للتغلب على العديد من هذه الصعاب والتحديات ومن هذه المقومات:
- لدى دول الخليج فوائض مالية ضخمة نتيجة لتوافر كميات هائلة من النفط والغاز وذلك يساهم إلى حد كبير في توفير الغذاء بكميات كافية وبأسعار معقولة. ومن خلال تخفيض أو حتى إلغاء التعريفات الجمركية على الواردات الغذائية استطاعت دول مجلس التعاون الخليجي الحفاظ على مستوى جيد من الأمن الغذائي لمواطنيها ومقيميها. في الأمد البعيد تستطيع دول الخليج توفير الأموال اللازمة للاستثمار الزراعي والدخول في شراكات مع القطاع الخاص ورأس المال الأجنبي في توفير شبكة أمان غذائي من خلال توطين الزراعة والاستغلال الأمثل للأراضي الزراعية.
- - المساحات الشاسعة من الأراضي في دول المجلس والتي يمكن استغلالها للعمران دون التعدي على الرقعة الزراعية. فتبلغ مساحة دول المجلس ٢,٤ مليون كم٢، وبينما الأراضي المستغلة للزراعة لا تتجاوز ٩,٧ ألف كم٢، أي فقط ٠,٤٪ من مجموع الأراضي. لذلك تستطيع دول مجلس التعاون أن تمنع وبشكل فعّال أي تمدد عمراني باتجاه الأراضي الزراعية من خلال سنّ الأنظمة والقوانين التي تحمي الأراضي الزراعية، وفي نفس الوقت تشجع المواطنين على إعمار المناطق الصحراوية القاحلة.
- صادرات دول الخليج العربي من المغذيات الزراعية.
تعتبر دول مجلس التعاون الخليجي من أكبر مصدري المغذيات الزراعية في العالم. حيث تنتج دول المجلس ١٦,٤ مليون طن من اليوريا و٣,٤ مليون طن من ثنائي فوسفات الأمونيوم يستفيد منها حوالي ٣٥٠ مليون نسمة في آسيا وأوروبا والأميركتين. بالمقابل تفتقر دول مجلس التعاون إلى التكنولوجيا الزراعية الحديثة، خاصة أنواع الزراعات التي تحتاج إلى القليل من المياه والتربة. تستطيع دول مجلس التعاون أن تعمل على تبادل التكنولوجيا مقابل المغذيات الزراعية. إن الدول المتقدمة تضع سياسات حمائية تقلل من تصدير التكنولوجيا الزراعية لحماية منتجاتها. لذلك من المهم جداً أن تقوم دول الخليج بحماية منتجاتهم من المغذيات الزراعية واستبدالها بما يفيدها في تحقيق الأمن الغذائي.
- دعم البحث والتطوير في مجال الزراعة نتيجة لارتفاع الفوائض المالية الناجمة عن تصدير النفط، استطاعت دول الخليج العربية أن تخصص الأموال اللازمة لبحوث تطوير الزراعة. ففي المملكة العربية السعودية مثلاً، استطاع برنامج استدامة من العمل على تطوير برامج تتعلق بتقنيات البيوت المحمية التي تؤدي إلى تعظيم إنتاجية الخضروات وتحسين جودتها بالإضافة إلى برامج كفاءة استخدام المياه والزراعة العمودية، والزراعة بدون تربة ومكافحة الآفات والحشرات. كما قامت جامعة قطر ببناء محطة البحوث الزراعية في العام ٢٠٢٠م، تهدف إلى إيجاد وتطوير تقنيات زراعية مبتكرة لتوفير أفضل السبل لاستخدام الموارد الطبيعية المتاحة ومواجهة تحديات زراعة الأراضي الجافة. كما دشنت دولة الإمارات العربية المتحدة منصة أبحاث الغذاء حددت فيها ٨ أولويات للبحث والتطوير في مجال الزراعة وهي: الحد من النفايات الزراعية التطبيقات الحديثة للروبوتات والطائرات بدون طيار في مجال الزراعة والتقنيات الحديثة ضمن سلاسل التوريد الزراعية، وتطبيق تكنولوجيا المعلومات الحديثة في الزراعة، واستخدام التكنولوجيا الحيوية، والزراعة المبتكرة، والأغذية البديلة (الصحية والمستدامة بيئياً) والمواد ذات الأصل الحيوي.
- التكامل الزراعي.
منذ العام ٢٠٠٤، قامت دول مجلس التعاون بإصدار مجموعة من القوانين والأنظمة التي هدفت إلى تحقيق التكامل الزراعي بين دول المجلس وتطوير العمل المشترك من أجل تحقيق أهداف الاتفاقية الاقتصادية لدول المجلس لعام ١٩٨١م، وما لحقها من تطوير في الأعوام اللاحقة. ففي المجال الزراعي تضمنت السياسة الزراعية لدول المجلس مجموعة برامج لتطوير العمل الزراعي المشترك وهي: برنامج تنسيق الخطط والسياسات الزراعية الذاتية، برنامج مشترك لمسوحات واستغلال وصيانة الموارد الطبيعية وبرنامج مشترك للإنتاج الزراعي الغذائي.
مما سبق، تبين أن دول مجلس التعاون الخليجي ستجابه تحديات صعبة وشاقة في الوصول إلى الاكتفاء الذاتي وتحقيق الأمن الغذائي الدائم. فأعداد السكان ستزداد والمناخ لن يتحسن والرقعة الزراعية ستنكمش. كما أن الصراعات وحالات عدم الاستقرار في إقليم الشرق الأوسط ستضعف من إمكانيات الاستثمار. إلا أن دول مجلس التعاون الخليجي ومنذ التأسيس عقدت العزم على التعاون والتعاضد ومجابهة أي تحد بروية وعقلانية والانتصار في النهاية على الظروف. قد لا تستطيع دول مجلس التعاون الوصول إلى الاكتفاء الذاتي قريباً، ولكن من المؤكد أنها ستستطيع التعايش مع الظروف والمتغيرات الصعبة والخروج بصيغة يستطيع المواطن الخليجي والمقيم التأقلم معها دون معاناة.