يظل ضمان الأمن المائي والغذائي في منطقتنا العربية وبالأخص منها دول الخليج العربي أحد أهم التحديات الرئيسية الراهنة؛ وذلك جراء مناخها القاسي القاحل ومواردها المائية الطبيعية المحدودة وتغير النظم البيئية، ما استدعى من دول المنطقة ضرورة التحرك الفوري والمدروس لمواجهة هذا التحدي على مختلف محاوره، ولقد كان للمملكة العربية السعودية دور رائد في التصدي لهذه القضية، من خلال التدابير الاستباقية والاستثمارات في الإصلاحات الزراعية والبيئية، عبر الهندسة الزراعية والممارسات المبتكرة واستخدام التقنيات الزراعية المتقدمة التي كان لها الدور الحاسم في هذا الصدد، إلى جانب المبادرات التي أطلقتها المملكة والجهود العربية الأوسع الرامية إلى تنمية الغطاء النباتي ومكافحة التصحر.
وقد جسدت مبادرتا "السعودية الخضراء" (SGI) و"الشرق الأوسط الأخضر" (MGI)، اللتان أطلقهما صاحب السمو الملكي ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان في 27 مارس 2021م، طموح المملكة لقيادة العمل المناخي الإقليمي، حيث هدفت مبادرة السعودية الخضراء إلى مكافحة التغير المناخي ورفع المستوى المعيشي والسعي إلى تحقيق التنمية البيئية المستدامة من خلال الإجراءات الاستراتيجية بخفض الانبعاثات وتنمية الغطاء النباتي على أوسع نطاق، وحماية النظام البيئي داخل المملكة، حيث يجري العمل حاليًا على تنفيذ أكثر من 80 مشروعًا بالمملكة، تأكيداً على التزامها بالاقتصاد الأخضر وترجمة الالتزامات البيئية العالمية إلى نتائج ملموسة، فيما تقدم مبادرة الشرق الأوسط الأخضر خطة عمل منسقة مصممة خصيصًا للتحديات البيئية الفريدة في الشرق الأوسط، مما يؤكد دور المملكة في تعزيز الاستدامة العالمية.
كما أعطت المملكة العربية السعودية الأولوية لمكافحة التصحر، وهو تهديد خطير للأراضي الصالحة للزراعة في المنطقة، حيث التزمت المملكة باستعادة ما يقرب من 200 مليون هكتار (الهكتار عشرة آلاف متر مربع) من الأراضي المتدهورة، على الصعيدين المحلي والعالمي، وقامت بالفعل بحماية 18% من مساحة أراضيها.
ولعل جهود المملكة في مجال التشجير ومبادرة السعودية الخضراء تبرز مدى التزامها باتباع النظم البيئية المرنة التي تدعم الأنشطة الزراعية المستدامة، ومن خلال زراعة الملايين من الأشجار وإعادة إحياء المساحات الشاسعة من الأراضي المتدهورة تتضح الجهود الحثيثة من الحكومة السعودية لمكافحة التصحر وتوسيع الأراضي الصالحة للزراعة، وإلى جانب توسيع المساحات الخضراء تشمل هذه المبادرات تطوير استراتيجيات فعالة لإدارة المياه، مثل أساليب الري المبتكرة واستخدام مياه الصرف الصحي المعالجة لأغراض الزراعة والإسهام في التنوع البيولوجي البحري وحماية السواحل كما في مشروع زراعة أشجار المانغروف على طول ساحل البحر الأحمر.
وكنتُ في مطلع هذا العام (2024م) أجريتُ استطلاعاً للرأي العام سلطتُ من خلاله الضوء على التصورات العامة حول الأمن الغذائي والمائي في المملكة العربية السعودية والعالم العربي على نطاق أوسع، حيث ركزتُ في الاستطلاع على مواءمة سياسات المملكة مع أهداف رؤية 2030، خاصة في مجال الزراعة المستدامة، وقد أظهرت النتائج آراء متباينة حول ما إذا كانت المنظمات الزراعية تعطي الأولوية للاستدامة البيئية، إذ ظل 58% من المشاركين محايدين، فيما وافقت أقلية كبيرة (33%) أو وافقت بشدة على أن هذه المنظمات تعطي الأولوية للاستدامة، ولعل هذا يعكس الوعي المتزايد والموافقة على الممارسات المستدامة وتقدير أهميتها.
التجربة السعودية في التشجير ومبادرة السعودية الخضراء
تمثل مبادرة السعودية الخضراء شهادةً على التزام المملكة بمعالجة التحديات البيئية والزراعية الحرجة التي تفرضها بيئتها القاحلة، ويهدف هذا المسعى الشامل، بقيادة قيادات الدولة، إلى مكافحة التصحر والحفاظ على المياه وتخفيف الضغوط البيئية من خلال مشاريع التشجير واسعة النطاق والممارسات الزراعية المستدامة.
ومن المرتكزات الأساسية لهذه المبادرة تحقيق الهدف الطموح المتمثل في زراعة ملايين الأشجار في جميع أنحاء المملكة، حيث لم يتم تصميم هذا الجهد لتعزيز الغطاء الأخضر فحسب، بل أيضًا لعزل الكربون وتعزيز التنوع البيولوجي وتحسين جودة الهواء، (وعزل الكربون أو إزالة غاز ثاني أكسيد الكربون هو عملية تشمل الإزالة أو الاحتجاز أو العزل طويل الأمد لغاز ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي لإبطاء أو تخفيف تلوث الغلاف الجوي بهذا الغاز لتخفيف أو إبطال ظاهرة الاحتباس الحراري)، ومن خلال تبني التقنيات المتطورة والتدابير الصارمة للحفاظ على المياه، تعمل المملكة على تحويل الأراضي القاحلة إلى أنظمة بيئية مزدهرة، وبالتالي تعزيز الأمن الغذائي وإنشاء الأراضي الصالحة للزراعة.
وتتوافق مبادرة السعودية الخضراء مع أهداف التنمية المستدامة العالمية السبعة عشر (SDGs)، خاصةً تلك التي تركز على حماية البيئة واستدامة الموارد، إذ تشمل الأهداف الجديرة بالذكر توليد 50% من طاقة الدولة من مصادر متجددة، وزراعة 10 ملايين شجرة، وإعادة تأهيل 40 مليون هكتار من الأراضي، وتخصيص 30% من المناطق البرية والبحرية كمحمية بحلول عام 2030م، ومثل هذه المبادرات يعد ضرورة لإنشاء نظام مستدام وآمن لإنتاج الغذاء وقادر على مواجهة التحديات التي يفرضها تغير المناخ وندرة المياه.
وقد أدت هذه المبادرة إلى تطورات كبيرة، مثل توفير الطاقة النظيفة لـ 150 ألف منزل، وتطوير أكثر من 11.0 جيجاوات من قدرات الطاقة المتجددة، وتركيب 10 ملايين عداد كهرباء ذكي، كما نجحت هذه التدابير بشكل جماعي في خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنحو مليوني طن سنوياً. ومن اللافت للنظر أن اعتماد المملكة لنموذج الاقتصاد الدائري للكربون الذي أقرته دول مجموعة العشرين وقيادتها لمبادرة الشرق الأوسط الأخضر ساعد في دفع التعاون الإقليمي في مجال الاستدامة البيئية.
علاوة على ذلك، كان أحد الإنجازات المحورية للمبادرة هو التخفيض الكبير في استهلاك المياه الزراعية بحوالي 10.0 مليارات متر مكعب، ما يوضح نهجها الشامل في الإشراف البيئي. وبشكل جماعي، تؤكد هذه الجهود على التأثير التحويلي لمبادرة السعودية الخضراء على المشهد البيئي في البلاد ومساهمتها الكبيرة في تحقيق الأمن المائي والغذائي في المنطقة العربية الأوسع.
التكنولوجيا الزراعية والنظم الحيوية بالمملكة: محصول أكبر مقابل كل قطرة ماء
يعد تخصص الهندسة الزراعية والنظم الحيوية - والذي يركز على دراسة وتقييم وتطوير التقنيات الحديثة في المجالات الزراعية المختلفة بما يتناسب مع الظروف المحيطة - أمرًا بالغ الأهمية بالنسبة للمملكة؛ وذلك للتغلب على الظروف الزراعية الصعبة، عبر تسخير التقنية بأفضل السبل ورفع كفاءة استخدام المياه إلى أعلى مستوى، وزيادة إنتاجية المحاصيل، وتعزيز الممارسات الزراعية المستدامة، تطبيقاً لمبدأ "محصول أكبر مقابل كل قطرة ماء"، ونظراً لمحدودية الأراضي الصالحة للزراعة وتهديد التصحر، فإن اعتماد تقنيات زراعية متقدمة يعد أمراً حيوياً لتحويل الأراضي القاحلة إلى أراضٍ زراعية خصبة.
لقد أحدث تكامل أجهزة الاستشعار والبرمجيات وتقنيات إنترنت الأشياء (IoT) ثورة في الممارسات الزراعية وإدارة المياه في السعودية، ومن خلال المراقبة والتنظيم عن بعد يمكن للمزارعين وسلطات إدارة المياه تعزيز الكفاءة التشغيلية، وتقليل النفايات، وتحقيق أفضل الإنتاج. كما تعتبر مثل هذه التطورات التكنولوجية حاسمة بالنسبة لاقتصاد المملكة وأمنها الغذائي، حيث لدى أنظمة إدارة المياه الزراعية التي تدعم إنترنت الأشياء القدرة على تعزيز الإنتاجية الزراعية بشكل كبير.
ومن خلال مراقبة مستويات رطوبة التربة والأحوال الجوية وصحة النبات عن بعد، يستطيع المزارعون تحسين تقنيات الري واستخدام الأسمدة وغير ذلك من المدخلات، ما يؤدي إلى الاقتصاد في استخدام المياه والحفاظ عليها مع زيادة الإنتاجية الزراعية، ويمهد الطريق لقطاع زراعي أكثر استدامة وازدهارًا في المملكة.
أهمية الهندسة الزراعية والنظم الحيوية من وجهة النظر السعودية
مثّل لجوء المملكة وكذلك بقية دول الخليج العربي -في سعيها لتحقيق الأمن المائي والغذائي -إلى الابتكار والمرونة في مواجهة التحديات البيئية الهائلة ضرورة قصوى، كونها تقع في واحدة من أكثر المناطق جفافاً على وجه الأرض، فضلاً عما يواجهها من عقبات شديدة، بما في ذلك ندرة المياه العذبة ومحدودية الأراضي الصالحة للزراعة والتصحر الشديد. ووسط هذه التحديات، أصبح الدور الحاسم للهندسة الزراعية والنظم البيولوجية واضحًا، حيث تلعب هذه التخصصات العلمية دورًا أساسيًا في تحويل المناطق القاحلة إلى مناطق زراعية منتجة، عبر تحسين استخدام المياه وتعزيز إنتاجية المحاصيل من خلال التقنيات المتقدمة، ما نتج عنه قطع المملكة في عام 2022م، خطوات كبيرة في مكافحة التصحر وزيادة الغطاء النباتي، بما في ذلك زراعة 18 مليون شجرة وإعادة تأهيل 60 ألف هكتار من الأراضي المتدهورة، فضلاً عن استثمارات كبيرة في زراعة المحاصيل المقاومة للجفاف وتطوير أنظمة الري الفعالة والتي تشير إلى تحرك استراتيجي نحو رفع مستوى الإنتاجية الزراعية مع الحفاظ على الموارد المائية.
وهنا نشير إلى أن الهندسة الزراعية في المملكة تركز بشدة على إدارة المحاصيل محدَّدة الموقع، أو ما يُطلق عليها اختصاراً "الزراعة الدقيقة" التي تستفيد من التكنولوجيا؛ لتكييف الممارسات الزراعية مع الظروف المحددة لكل قطعة أرض، وهذا النهج يضمن استخدام المياه والمدخلات الأخرى بكفاءة، مما يقلل من النفايات ويعزز الممارسات المستدامة ويسهّل اتخاذ القرارات المتعلِّقة بإدارة المزرعة بالكامل بناءً على معطيات دقيقة، مستفيدة من الخوارزميات وبرامج المحاكاة الحاسوبية، من أجل تعزيز عوائد المدخلات مع الحفاظ على الموارد المستخدمة. بالإضافة إلى ذلك، فإن التقدم في تكنولوجيا الري، مثل الري بالتنقيط واستخدام مياه الصرف الصحي المعالجة في الزراعة، له أهمية محورية في التخفيف من تحديات ندرة المياه.
واستكمالًا لهذه الحلول الهندسية، تستكشف دراسات النظم البيولوجية التفاعلات المعقدة بين الأنشطة الزراعية والبيئة، ويشمل ذلك فهم كيفية زراعة المحاصيل القادرة على الصمود في مواجهة المناخ الصعب مع المساهمة في استقرار النظم البيئية المحلية، وهذه المساعي العلمية تهدف إلى إنشاء أنظمة زراعية مستدامة ومكتفية ذاتيًا يمكنها تحمل الضغوطات البيئية، وهو ما جسدته مبادرة السعودية الخضراء بدمج هذه التطورات التكنولوجية والعلمية في السياسات البيئية والزراعية المستدامة واسعة النطاق، ومن خلال تعزيز الغطاء النباتي ومكافحة التصحر عكست هذه المبادرة استراتيجية أوسع لمعالجة الأمن الغذائي والمائي في وقت واحد.
كما امتدت قيادة المملكة العربية السعودية في مجال الأمن المائي والغذائي إلى ما هو أبعد من حدود المملكة، فمن خلال مبادرات مثل مبادرة المنظمة العالمية للمياه التي أعلن عن تأسيسها سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في سبتمبر الماضي والالتزام بتقديم المساعدات الدولية الكبيرة، تدعم المملكة الجهود العالمية لمعالجة ندرة المياه والتحديات الأمنية. وعلى سبيل المثال، تعمل منصة المياه لمجموعة العشرين في المملكة العربية السعودية على تعزيز التعاون الدولي وتبادل أفضل الممارسات، مما يعزز دور المملكة كرائدة عالميًا.
ومن هذا المنطلق لا نبالغ في التأكيد على الدور المحوري للهندسة الزراعية والأنظمة الحيوية في سعي المملكة نحو تحقيق الأمن المائي والغذائي، ومن خلال الهندسة المبتكرة والفهم العميق للنظم البيولوجية، لا تواجه المملكة تحدياتها البيئية فحسب، بل تضع أيضًا معيارًا عالميًا للممارسات الزراعية المستدامة في المناطق القاحلة.
الهندسة الزراعية في العالم العربي
بالانتقال إلى المنطقة العربية نجد الحال لا تختلف كثيراً عن واقع منطقة الخليج، حيث تواجه المنطقة العربية وإن على مستويات متقاربة تحديات كبيرة فيما يخص ندرة المياه والأمن الغذائي، ما يجعل الهندسة الزراعية قطاعًا بالغ الأهمية، حيث تعتبر الابتكارات مثل الزراعة الدقيقة والزراعة المائية وأصناف المحاصيل المقاومة للجفاف أمراً حيوياً في معالجة الأراضي الزراعية المحدودة ونقص المياه، ولعل هذه أحد النقاط الرئيسية لبرنامج البحوث من أجل التنمية التابع للمركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة (إيكاردا)، الذي يركز بالتعاون مع النظم الوطنية للبحوث والإرشاد الزراعي (NARES)، على الإنتاج الزراعي المستدام، من خلال تقديم حزم التكنولوجيا التي تمكّن من إنتاج محاصيل عالية الجودة مع الحد الأدنى من استخدام المياه، ما يؤكد على أهمية الاستفادة من التكنولوجيا لتعزيز قدرة الزراعة الحضرية وشبه الحضرية على توفير الأطعمة المغذية للمناطق الحضرية، وضرورة زيادة الاستثمار في البحث والتطوير كأمر حتمي لخلق التكنولوجيات التي تعزز بيئات غذائية أكثر صحة وتحسين توافر الأطعمة الغذائية.
وبالنظر إلى جهود الدول العربية تجاه تطبيق الهندسة الزراعية للتخفيف من التحديات، نجد العديد من هذه الدول صار يتبنى تقنيات زراعية دقيقة وأنظمة ري فعالة ومحاصيل مقاومة للجفاف لمعالجة العقبات البيئية، فعلى سبيل المثال خطت مصر خطوات واسعة في مجال الزراعة بدون تربة لإنشاء ممارسات زراعية مستدامة، وبالمثل نفذت دولة الإمارات العربية المتحدة أساليب ري متقدمة، مثل أنظمة الري بالتنقيط والرش، لتحقيق أقصى قدر من كفاءة استخدام المياه، فضلاً عما تتيحه الزراعة البيئية الخاضعة للرقابة والمطبقة بالعديد من الدول العربية، بما في ذلك استخدام البيوت الزجاجية والزراعة المائية، من زراعة المحاصيل في ظل ظروف قاسية، ولا تعمل هذه التقنيات والممارسات على تعزيز المخرجات الزراعية فحسب، بل تعزز أيضًا استدامة الموارد في جميع أنحاء المنطقة العربية.
مبادرات البحوث الزراعية العربية
تُظهر حالة البحوث الزراعية في العالم العربي جهوداً كبيرة مبذولة لمكافحة التصحر وتحسين صحة التربة وزيادة إنتاجية المحاصيل من خلال التقدم العلمي، حيث أَدخلت أبحاث علوم التربة تعديلات على التربة وممارسات الحفاظ عليها كي تستعيد خصوبتها وتمنع التدهور، كما أن التقدم في تقنيات الري، مثل استخدام مياه الصرف الصحي المعالجة وأنظمة الري الدقيقة، يعمل على تحسين استخدام المياه وتقليل النفايات، فيما تركز أبحاث علوم المحاصيل على تربية أصناف تتحمل الجفاف والملوحة ويمكن أن تزدهر في ظل الظروف القاسية التي تعيشها المنطقة، ما يجعل هذه المبادرات البحثية القائمة على الأدلة تلعب دورًا أساسيًا في تعزيز الإنتاجية الزراعية وضمان الأمن الغذائي في بيئة تواجه تحديات مناخية وبيئية مستمرة.
وكذلك تتعاون المؤسسات البحثية والوكالات الحكومية في العديد من المشاريع، حيث تقدم حلولاً تعتمد على البيانات ومصممة خصيصًا لتلبية الاحتياجات الفريدة للمنطقة، كما تلعب المؤسسات الرئيسية مثل المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة (إيكاردا) والمعهد الدولي لبحوث المحاصيل في المناطق الاستوائية شبه القاحلة (ICRISAT) دورًا محوريًا في تطوير أصناف المحاصيل التي تتحمل الجفاف، وتعزيز الممارسات الزراعية المستدامة، وتحسين إدارة الأراضي، وتوفير تقنيات لبيئات الأراضي الجافة، عبر هذه الحلول والابتكارات، وهو ما يجعلنا نؤكد أن نظرة مفصّلة عن التجربة السعودية وكذلك الجهود العربية الأوسع ستبرهن على الدور الحاسم للهندسة الزراعية والنظم البيولوجية في تعزيز الأمن المائي والغذائي لمنطقتنا، وكون الابتكار المستمر والبحث واعتماد الممارسات المستدامة أمرًا ضروريًا لمواجهة التحديات الزراعية في المنطقة وضمان مستقبل سكانها.
توصيات نحو ممارسات زراعية مبتكرة ومستدامة للبيئة العربية القاحلة
تتطلب معالجة ندرة المياه ومحدودية الأراضي الصالحة للزراعة والمناخ القاسي في المنطقة العربية ودول الخليج العربي ممارسات زراعية مبتكرة ومستدامة، ومن بين أهم التوصيات الرئيسية المصممة خصيصًا لهذه البيئة القاحلة ضرورة وجود الإدارة الفعالة للمياه، عبر تنفيذ تقنيات الري المتقدمة مثل أنظمة الري بالتنقيط والرشاشات للحد من هدر المياه، والاستفادة من مياه الصرف الصحي المعالجة والمياه الرمادية للأغراض الزراعية للحفاظ على موارد المياه العذبة، وكذلك اعتماد أجهزة استشعار رطوبة التربة وأنظمة الري الآلية لضمان الري الأمثل استنادًا إلى البيانات في الوقت الحقيقي، فضلاً عن الاستفادة من المحاصيل المقاومة للجفاف، من خلال الاستثمار في البحث والتطوير لتربية أصناف المحاصيل التي تتحمل الجفاف والملوحة، وتشجيع زراعة النباتات والمحاصيل المحلية التي تتكيف بشكل طبيعي مع الظروف القاحلة، وكذلك تنفيذ استراتيجيات تناوب المحاصيل وتنويعها لتعزيز صحة التربة وتعظيم الغلات.
ومن بين التوصيات الرئيسية كذلك اعتماد مبدأ الزراعة في بيئة خاضعة للرقابة، وذلك بتطوير أنظمة الزراعة في البيوت المحمية والزراعة المائية لزراعة المحاصيل في بيئات خاضعة للرقابة، ما يقلل بشكل كبير من استخدام المياه ويزيد الإنتاجية إلى الحد الأقصى، بالإضافة إلى الاستفادة من أنظمة الزراعة العمودية حيثما أمكن ذلك لتوفير المساحة وتحسين إنتاجية المحاصيل، وضرورة تحسين حالة التربة من خلال استخدام التعديلات العضوية مثل السماد العضوي والسماد الطبيعي والفحم الحيوي لتحسين خصوبة التربة وبنيتها، وتعزيز ممارسات الحراثة المحافظة على التربة للحفاظ على رطوبة التربة والحد من تآكلها، وكذلك إدخال زراعة الغطاء وإدارة مخلفات المحاصيل لحماية صحة التربة وتعزيز محتواها العضوي.
ومن التوصيات أيضاً التشجير والحراجة الزراعية، فالحراجة الزراعية هي نهج متكامل لاستخدام المزايا التفاعلية من الجمع بين الأشجار والشجيرات مع المحاصيل /أو الماشية، ويتأتى ذلك من خلال تنفيذ مشاريع تشجير واسعة النطاق لمكافحة التصحر وتحسين المناخ المحلي، ودمج الأشجار والشجيرات مع المحاصيل (الحراجة الزراعية) لتثبيت التربة، والحد من تآكلها، وتوفير مصادر دخل إضافية، وأيضاً التوصية بالتكامل التكنولوجي باستخدام الاستشعار عن بعد ونظم المعلومات الجغرافية (GIS) للرصد الدقيق ورسم خرائط الممارسات الزراعية، ودمج أجهزة إنترنت الأشياء (IoT) لجمع البيانات في الوقت الحقيقي حول التربة والطقس وظروف المحاصيل، واعتماد تقنيات زراعية دقيقة لتحسين استخدام المدخلات مثل المياه والأسمدة والمبيدات الحشرية، إلى جانب خدمات الإرشاد المجتمعي عبر إنشاء برامج الإرشاد والتوعية لتثقيف المزارعين حول الممارسات والتقنيات الزراعية المستدامة، وتسهيل نقل المعرفة من خلال ورش العمل والدورات التدريبية والعروض التوضيحية، وأخيراً تشجيع إدارة الموارد المجتمعية والعمل الجماعي لتعزيز القدرة على الصمود.
الخاتمة
تواجه المنطقة العربية، خاصة دول الخليج العربي، تحديات كبيرة في مجال الأمن المائي والغذائي؛ جراء مناخها الجاف ومواردها الطبيعية المحدودة، ومن خلال تبني ممارسات الهندسة الزراعية والنظم البيولوجية المبتكرة، يمكن لهذه المناطق معالجة هذه التحديات وتأمين مستقبل مستدام. وتبرز مبادرات المملكة العربية السعودية، مثل مبادرة السعودية الخضراء ومبادرة الشرق الأوسط الأخضر، نهجاً شاملاً يجمع بين التقدم التكنولوجي والإشراف البيئي والتعاون الإقليمي الاستراتيجي ومعيارًا عالميًا للممارسات المستدامة في المناطق القاحلة، كما أن هذه المبادرات سلطت الضوء على أهمية الابتكار المستمر والبحث والممارسات المستدامة.
وتستفيد المنطقة العربية الأوسع من هذه الجهود الرائدة، ويجب عليها أن تستمر في الاستثمار في البحث والتطوير الزراعي، واعتماد تقنيات فعالة لإدارة المياه، ونشر التقنيات المتقدمة لتعزيز الإنتاجية الزراعية، فالنهج الجماعي الذي يتضمن الدعم الحكومي، والبحث العلمي، والمشاركة المجتمعية، والتعاون الدولي بات أمراً حيوياً. ومن خلال اعتماد الممارسات الزراعية الموصى بها والمصممة خصيصًا للبيئة القاحلة والاستمرار في دفع حدود الابتكار واستمرار الجهود الشاملة والتعاونية، لن تستطيع المنطقة العربية التغلب على تحدياتها الحالية فحسب، بل يمكنها أيضًا تمهيد الطريق لمستقبل مرن ومستدام، يضمن الاستقرار والازدهار للأجيال القادمة، في واحدة من أكثر البيئات تحديًا في العالم.