قال سبحانه وتعالى في محكم كتابه "وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون" (سورة الأنبياء آية 30). فالماء هو أساس الحياة والكون، وبدونه تختفي أهم عناصر وجود الإنسان والنبات والحيوان. فمع أن نسبة المياه في الأنهار والبحار والمحيطات تمثل70% من مساحة كوكب الأرض، إلا أن الغالبية العظمى منها مياه مالحة غير صالحة للشرب أو الزراعة، ولا تبلغ نسبة المياه العذبة منها سوى حوالي 3%.
ويتفق الباحثون على أن ظهور الزراعة بمعنى استئناس النباتات والحيوانات منذ عشرة آلاف سنة قبل الميلاد على أقل تقدير. وعلى مدى هذه السنوات، ارتبطت المياه والزراعة ارتباطًا وثيقًا، وشهدت المناطق التي توفرت فيها المياه العذبة تطور النشاط الزراعي، وزراعة محاصيل جديدة، واستخدام المعدات والآلات.
منذ سبعينيات القرن العشرين، ازداد الحديث عن الأمن المائي والأمن الغذائي، وذلك في ضوء الجدل بشأن مستقبل العالم والجنس البشري، والذي أثاره صدور كتاب "حدود النمو" عن نادي روما في 1972م، والذي احتوى نظرة متشائمة لهذا المستقبل، ووجه تحذيرًا للإنسانية بأن الموارد المعدنية والطبيعية في العالم يتم استنزافها بمعدلات عالية مما ينذر بنضوبها.
ارتبط بهذا الجدل، زيادة عدد سكان العالم، وازدياد الطلب على الماء والغذاء، واتضح حجم التفاوت الاجتماعي بين الدول الغنية التي تُهدر فيها كميات هائلة من الطعام، بينما ينتشر الفقر والجوع في الدول النامية. وأدى ذلك إلى ازدياد اهتمام الحكومات ومراكز البحوث والمنظمات الدولية بهذا الموضوع.
كان من شأن ذلك، أن قضايا المياه والغذاء شغلت مكانة مهمة في أهداف التنمية المستدامة التي أقرتها الأمم المتحدة، فنص الهدف الثاني على "القضاء على الجوع وتحقيق الأمن الغذائي وتحسين التغذية وتعزيز الزراعة المستدامة"، وأشار الهدف السادس إلى " ضمان توافر المياه وخدمات الصرف الصحي للجميع وإدارتها إدارة مستدامة". وعلاوة على ذلك، تمت الإشارة إلى موضوعي المياه والغذاء في الأهداف رقم 3 و11و12و15. وعلى المستوى العربي، نصت المادة 39 من الميثاق العربي لحقوق الإنسان فقرة 2 (ه) على أن تقوم الدول العربية بالعمل على " توفير الغذاء الأساسي ومياه الشرب النقية لكل فرد".
وسوف يعرض هذا المقال أهم التحديات المرتبطة بالأمن المائي والأمن الغذائي في الدول العربية، مع الإشارة إلى الاستراتيجيات المقترحة لمواجهتها.
أولًا: تحديات الأمن المائي
تواجه أغلب الدول العربية الآثار المترتبة على "الفقر المائي" أو" ندرة المياه المطلقة"، مما أثر على قدرتها على تحقيق الأمن الغذائي لشعوبها، وهو ما استدعى اهتمام البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة الذي خصص تقريره لعام 2014م، لدراسة موضوع "حوكمة المياه في المنطقة العربية: إدارة الندرة وتأمين المستقبل".
ويمكن فهم هذه المشكلة في ضوء الاعتبارات التالية:
- الموقع الجغرافي، تقع أغلب الدول العربية في مناطق صحراوية أو جافة تقل فيها الأمطار، فحوالي 89% من أراضيها يقع في مناطق قاحلة أو شبه قاحلة. ويدل على ذلك، أنه بينما تبلغ مساحة المنطقة العربية نسبة 9% من مساحة العالم، تقل مواردها المائية إلى نسبة 0.74% من موارد العالم المائية.
ويترتب على ذلك، انخفاض متوسط نصيب الفرد العربي من المياه العذبة المتجددة، فحسب تقدير اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا التابعة للأمم المتحدة (الإسكوا)، ينخفض هذا المتوسط في عدد 13 دولة عربية -من أصل 22 دولة-إلى 500 متر مكعب فأقل، وهي الكمية التي تشير إلى حالة الشح الشديد أو الندرة المطلقة للمياه. ويبلغ في خمس دول عربية من 500-1000 متر مكعب، وهي النسبة التي تشير إلى حالة عوز أو ندرة أو شح للمياه، والتي تُسمى بعتبة الفقر المائي. لذلك، يتفق الباحثون على أن المنطقة العربية هي من أكثر مناطق العالم تعرضًا للضغط المائي وعدم الأمن المائي.
- التغيرات المناخية، يزيد من مخاطر نقص المياه في الدول العربية التغيرات المناخية التي يشهدها العالم، والتي تمثلت في الارتفاع المضطرد لدرجة حرارة الكون، بسبب الانبعاثات الكربونية والاحتباس الحراري، والذي أدى إلى ظواهر الجفاف والتصحر وحرائق الغابات والفيضانات والسيول.
- ارتفاع معدلات النمو السكاني، ففي الدول العربية يزداد معدل النمو السكاني على المتوسط العام في العالم. فارتفع عدد سكانها من 225 مليون نسمة في 1990م، إلى 343 مليون في 2003م، ووصل إلى 453 مليون في 2022م، مما يؤدي إلى ازدياد الطلب على الماء والغذاء.
- ازدياد مستويات التحضر وارتفاع معدلات التنمية الاقتصادية ومستويات المعيشة، تزداد نسبة التحضر والنزوح من الريف إلى المدينة، وهناك سته عشر دولة عربية تصل فيها نسبة سكان الحضر إلى أكثر من 50% من عدد السكان. ويترتب على ذلك، ازدياد الطلب على المياه في المدن، وارتفاع المنافسة على استخدام المياه ما بين الزراعة من ناحية، وكل من الاستهلاك المنزلي والصناعة والخدمات من ناحية أخرى.
- عدم استخدام النظم الحديثة في الإدارة المتكاملة للموارد المائية وفي الزراعة، مما يؤدي إلى ازدياد الهدر والفاقد.
- الطبيعة الدولية للأنهار في المنطقة، والتي تمتد عبر أكثر من دولة، فالدول العربية التي تقع في أحد أحواض الأنهار هي "دول مصب"، أي أن مياه الأنهار فيها تأتي من خارج حدودها، مما يجعلها تتأثر بمشاريع الري الكبرى التي تقيمها "دول المنبع"، كحالة سوريا والعراق مع تركيا، وحالة مصر والسودان مع إثيوبيا .
وإذا أخذنا بعض الحالات الدالة على تحديات الأمن المائي، يمكن الإشارة إلى مصر، وسوريا، والعراق، والأردن، والأراضي الفلسطينية المحتلة.
ففي حالة مصر، نجد أنها تعتمد على نهر النيل الذي يمثل نحو 97% من مواردها المائية. وهو النهر الذي ينبع أساسًا من بحيرة تانا من إثيوبيا وبحيرة فيكتوريا الممتدة في أوغندا وكينيا وتانزانيا، ويمر عبر بوروندي ورواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية والسودان وصولًا إلى مصر. بدأت مصر في التنبؤ للمشكلة من عدة حقب، مع ازدياد عدد سكانها واحتياجاتهم المائية وتنوع مشروعات التنمية. يدل على ذلك، ما أشار إليه تقرير لجنة البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة لدراسة أوضاع النهر عام 1989م، أن مصر سوف تواجه نقصًا في المياه في الأجل القريب. ازدادت المشكلة تعقدًا مع تجاوز عدد السكان لأكثر من مائة مليون نسمة في القرن الحالي، والخلاف مع إثيوبيا بشأن السد الكبير الذي بدأت في إقامته والذي يمكن أن يؤثر على حصة مصر من المياه في سنوات الجفاف المستمر.
عاشت سوريا في حالة وفرة نسبية من المياه بسبب تعدد الأنهار بها، وهطول كميات وفيرة من الأمطار على أرضها، وتوفر المياه الجوفية واعتدال مناخها. ولكنها بدأت في مواجهة مشكلة نقص المياه بسبب حالة الاضطراب السياسي التي عاشتها منذ 2011م، وسيطرة بعض الفصائل المسلحة على أجزاء من أقاليم الدولة، مما أدى إلى عدم العناية الكافية لنظم الري وصيانتها بشكل صحيح. إضافة إلى، انخفاض كميات المياه الواردة لنهري دجلة والفرات اللذان ينبعان من داخل تركيا، نتيجة للسدود ومحطات توليد الكهرباء التي أقامتها انقره. تواجه سوريا أيضًا، الآثار الممتدة لاحتلال إسرائيل لهضبة الجولان منذ 1967م، وسيطرتها على مواردها المائية.
يعاني العراق أيضًا أزمة مياه حادة، بسبب تأثير المشروعات التي أقامتها تركيا على نهري دجلة والفرات، وبرزت الآثار المدمرة في السنوات الأربع الأخيرة وانخفض منسوب المياه في النهرين وتدهورت جودتها، مما أدى إلى عدم إمكانية زراعة مساحات واسعة من الأراضي. وزاد من حدة المشكلة، ارتفاع درجات الحرارة وتدهور شبكات المياه وارتفاع نسب التسريب والفاقد فيها.
ربما يكون الأردن من أكثر الدول العربية تعرضًا لندرة المياه، بسبب محدودية مصادرها، وتأثرها بالاعتبارات السياسية بحكم أن الأردن وفلسطين وإسرائيل تقع في حوض نهر الأردن (إضافة إلى سوريا ولبنان). وقيام إسرائيل منذ ستينيات القرن الماضي بتحويل كميات كبيرة من مياه نهر الأردن وتخزينها في بحيرة طبريا، ثم سيطرتها عليه كاملًا بعد حرب 1967م. كما أن احتلالها لهضبة الجولان السورية، مكنها من السيطرة على أهم رافدين للنهر وهما اللدان وبانياس. ترتب على ذلك، سيطرة إسرائيل على حجم المياه المتاحة للأردن.
أما الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967م، والتي تشمل الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، فإنها تعاني من السيطرة الإسرائيلية الكاملة على موارد المياه فيها، وسرقة مياه الآبار والاستغلال المجحف لها، ومنع الفلسطينيين من حفر آبار جديدة، أدى ذلك إلى هبوط منسوب المياه في الآبار المستخدمة للزراعة، وارتفاع ملوحة مياهها، وجفاف عدد كبير منها
وبصفة عامة، يعتبر الأمن المائي هو المقوم الرئيسي للأمن الغذائي، وهناك ارتباط وثيق بينهما، وكلاهما يمثل ركيزة أساسية للأمن القومي لأي دولة أو مجموعة من الدول.
ثانيًا: تحديات الأمن الغذائي
تذكر المنظمة العربية للتنمية الزراعية التي وافق مجلس جامعة الدول العربية على إنشائها في عام 1970م، أن مفهوم الأمن الغذائي هو " توفير الغذاء بالكمية والنوعية اللازمتين للنشاط والصحة بصورة مستقرة لكل الأفراد، اعتمادًا على الإنتاج المحلي أولا، وعلى أساس الميزة النسبية لإنتاج السلع الغذائية لكل قطر وإتاحته للمواطنين بالأسعار التي تتناسب مع دخولهم، وإمكانياتهم المادية". ومن ثم، فإن حالة الأمن الغذائي في أي دولة أو مجموعة من الدول يرتبط بشكل مباشر بوضع القطاع الزراعي فيها، ومدى قدرته على الوفاء بالاحتياجات المطلوبة. وتصدر المنظمة تقريرًا سنويًا بعنوان "أوضاع الأمن الغذائي العربي"، والذي صدر منه حتى عام 2022م، عدد أربعة وثلاثين تقريرًا.
وبخصوص البلاد العربية، تحتل الزراعة مكانة الأولوية في استخدامات المياه، إذ تبلغ نسبة المياه المستخدمة في الزراعة حوالي 84% من إجمالي الموارد المائية ومع ذلك، فإن الدول العربية تواجه مشاكل جمة بشأن أمنها الغذائي. أبرزها، نقص مساحات الأراضي القابلة للزراعة، التي تصل نسبتها إلى 15.7% من مساحة هذه الدول، وهي نسبة ضئيلة مقارنة بالنسبة العالمية التي تبلغ 37%. كما تنخفض مساحة الأراضي عالية الجودة في المنطقة العربية، ويصل الأمر مبلغه في حالة خلو عدد 14 دولة عربية تمامًا من أي أراضي عالية الجودة.
وبالإضافة إلى محدودية الأرض الصالحة للزراعة، هناك عوامل أخرى تحد من إنتاجية الزراعة العربية، تشمل: ندرة الموارد المائية التي تم الإشارة إليها من قبل، وازدياد نسبة الهدر والفاقد بسبب نظم الري التقليدية، وتدهور حالة التربة بسبب ارتفاع درجات الحرارة ونقص المياه وزيادة نسبة الملوحة فيها، والاستخدام المفرط للمبيدات، وتدهور البنية التحتية لشبكة الري وضعف الاستثمارات الموجهة للحفاظ عليها. وكذلك، الاستثمار المحدود في البحث العلمي الخاص بتطوير تكنولوجيات الزراعة وإنتاج الغذاء.
وهناك أيضًا، الآثار المترتبة على التغير الاجتماعي في الدول العربية، كازدياد معدلات النمو السكاني، والهجرة من الريف إلى المدن، مما أدى إلى ازدياد الطلب على الغذاء، وتراجع نسبة العاملين في قطاع الزراعة بشقيه النباتي والحيواني، فبلغت في 2020م، نسبة 17.68% إلى إجمالي القوة العاملة، مقارنة بنسبة 19.71% في 2019م. كما أدت الاضطرابات السياسية والحروب الداخلية في السودان وسوريا واليمن، إلى مزيد من إضعاف القطاع الزراعي فيها.
وأدى كل ما تقدم إلى ازدياد الطلب على الغذاء بما يفوق قدرة هذه الدول على إنتاجه، إذ لا يتجاوز حجم إنتاجه نسبة 50% من إجمالي الطلب، مما يؤدي وجود "فجوة غذائية". وتشير الهيئة العربية للاستثمار والإنماء الزراعي التي أسستها احدى وعشرون دولة عربية عام 1976م، بهدف دعم مشروعات الأمن الغذائي، في تقرير لها عام 2018م، إلى أن 77.31% من إجمالي هذه الفجوة الغذائية ترجع إلى ست دول، وهي: السعودية (21.25%)، ومصر (16.55%)، والإمارات (13.04%)، والجزائر (13.25%)، والعراق (8.88%)، والكويت (4.35%).
وإزاء ذلك، تضطر الدول العربية للاعتماد على الاستيراد من الخارج لتعويض هذه الفجوة، مما يجعلها أكثر تأثرًا للاضطرابات الدولية، مثل الأزمة المالية في 2008-2009م، وأزمة جائحة كورونا 2020-2021م، والحرب الروسية الأوكرانية منذ 2022م، والتي أثرت على سلاسل إمداد الغذاء وارتفاع أسعاره.
وفي مجال تفسير عدم قدرة القطاع الزراعي العربي على الوفاء باحتياجات الطلب، يتم الإشارة عادة إلى: سوء إدارة القطاع وضعف التكامل بين البرامج والإجراءات المتبعة، وضآلة الاستثمارات الكبيرة في مجال الزراعة والصناعات الزراعية الغذائية مقارنة بتلك الموجهة لقطاعي الصناعة والخدمات، وضعف الاهتمام ببناء القدرات المؤسسية وتبادل الخبرات وضعف الصلة كليات الزراعة ومراكز البحوث الزراعية من ناحية والمشاكل التي يواجهها القطاع الزراعي من ناحية أخرى.
ثالثًا: استراتيجيات المواجهة
تدور مقترحات الباحثين وتقارير المنظمات العربية والدولية حول كيفية مواجهة الدول العربية لتحديات ومخاطر الأمن المائي والأمن الغذائي حول ثلاثة محاور: المحور الأول، يتعلق بإقامة نظم متكاملة ومستدامة لإدارة الموارد المائية، والتي تشمل ترشيد استخدامات المياه المتاحة وتعظيم الاستفادة منها من خلال التوسع في تقنيات الري الحديثة. ويشمل هذا المحور أيضًا، التوسع في البحث عن موارد جديدة، من خلال تحلية المياه المالحة ومياه الصرف الزراعي والصناعي والصحي.
والمحور الثاني، الاستخدام الأمثل للرقعة الزراعية المتاحة، وزيادة الإنتاج الزراعي منها وهو ما يطلق عليه "التوسع الرأسي"، من خلال تقنيات الزراعة الحديثة، والتي تحقق زيادة في المحصول، واستخدام أقل للمياه، والإسراع بعملية النمو مع خفض التكاليف وحماية البيئة. هذا إضافة إلى التوسع الأفقي من خلال استصلاح الأراضي الصحراوية. والمحور الثالث، إدارة الموارد الغذائية، ويشمل ذلك جمع المحاصيل وتخزينها، ونقلها إلى أماكن الاستهلاك في الدولة، وتقليل الفاقد أو التالف.
وفي هذا المجال، يمكن الإشارة تحديدًا إلى ثلاث نقاط:
- تطوير تكنولوجيات تحلية المياه، والدخول في التجارب الخاصة بالاستمطار الصناعي. والذي يعني استخدام التكنولوجيات الحديثة لتحقيق هطول الأمطار، والتي قد تأخذ شكل رش السحب المحملة ببخار الماء الكثيف برذاذ الماء بواسطة الطائرات، مما يؤدي إلى ازدياد تشبع الهواء وتكثيف بخار الماء وسقوط المطر. أو شكل قذف غاز ثاني أكسيد الكربون المتجمد في شكل بلورات من الثلج الجاف أعلى السحب بواسطة الطائرات، مما يترتب عليه خفض درجة حرارة الهواء وتكوين بلورات من الجليد، مما يؤدي إلى التحام قطرات الماء في السحب وسقوطها. وهناك تجارب رائدة للاستمطار الصناعي في المملكة العربية السعودية، يمكن دراستها وبحث جدواها الاقتصادي وإمكانية تنفيذها في دول عربية أخرى.
- "الزراعة الذكية"، والتي تسمى أيضًا "الزراعة الدقيقة"، وتشير إلى توظيف مبتكرات التكنولوجيات الرقمية، بما فيها إنترنت "الأشياء" وتحليل البيانات الكبيرة، في مجالات استخدامات المياه والزراعة، وتبني نظم إدارة وإنتاج الثروة الحيوانية بكافة عناصرها ومدخلاتها، وذلك بما يتفق مع احتياجات الدول العربية ومواردها. تتضمن الزراعة الذكية، المتابعة والمراقبة الإلكترونية وحجم المياه والأسمدة اللازمة، وحوكمة العملية الزراعية بعناصرها الثلاثة، وهي التربة (التنوع البيولوجي والمواد العضوية وخصوصًا في الأراضي المستصلحة)، والمياه (نظم المياه الرقمية)، والنباتات (أعلى ناتج محصولي وأقل استخدام للمياه).
والزراعة الذكية ليست شكلًا أو نموذجًا ثابتًا، يتم نقله حرفيًا من مكان لآخر، ولكنها تختلف في تفاصيلها من مكان لآخر حسب اختلاف الظروف والموارد المتاحة، وحسب تقرير المنظمة العربية للتنمية الزراعية لعام 2022م، يعد "الابتكار التكنولوجي ضرورة الانتقال إلى نظم الأغذية المستدامة، وذلك بالتوجه نحو تكنولوجيا زراعية تعتمد على الموارد المحدودة بالوطن العربي وقادرة على التكيف مع المناخ فيه واستغلال المساحات بأفضل الطرق". ويدرك واضعو التقرير أن التكنولوجيا وحدها لا تقدم حلًا لتحديات الأمن المائي والغذائي، ولا تستطيع وحدها تحقيق التحول المطلوب. فأشار التقرير، إلى ضرورة تطوير نظم الإدارة والحوكمة، واستخدام نظم الحوافز لتغيير سلوك البشر والأسواق، وتغيير القيم والسلوكيات للمزارعين والمستهلكين
- مراجعة وتقييم الاستراتيجيات والسياسات التي اتبعتها الدول العربية في العقد الأخير، لتحقيق الأمن الغذائي فيها، بقصد استخلاص الدروس وتحديد جوانب الإنجاز والقصور. استهدفت هذه السياسات تنمية القطاع الريفي، بما يزيد من إنتاجيته في المحاصيل الزراعية والصناعات الزراعية. وشمل ذلك، تطوير البنى التحتية، وتحسين خدمات التعليم والصحة، وحوكمة سياسات استدامة الأمن الغذائي.
من الطبيعي أن تختلف هذه الاستراتيجيات والسياسات في أولوياتها وعناصرها من دولة لأخرى، وفقًا للظروف الخاصة بكل دولة. ففي بعض الدول، استهدفت التصدي للمشاكل المترتبة على التغيرات المناخية، وتوالي سنوات الجفاف وتدهور التربة، والأوبئة التي تصيب الحيوانات، وتطوير المحاجر البيطرية ومكافحة الأمراض المتوطنة والعابرة للحدود. وفي دول أخرى، ركزت على توسيع قدرات الدولة على تخزين المحاصيل بطريقة آمنه وتقليل الفاقد، بهدف تأمين احتياجات المواطنين لمدد أطول. وفي دول ثالثة، أكدت على حوكمة سياسات وبرامج الأمن الغذائي والتنسيق بين القطاعات والجهات ذات العلاقة، ووضع نظم للإنذار المبكر، ومتابعة المعلومات عن الأسواق الزراعية. وأشارت دول أخرى إلى أهمية زيادة الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة كوسيلة لإنتاج الغذاء المستدام، وتشجيع الهيئات المتخصصة في الإقراض الزراعي وتبسيط إجراءاتها، بحيث تكون خدماتها متاحة لصغار الفلاحين.
تتعدد الأطروحات التي أقرتها المنظمات العربية والدولية لمواجهة تحديات الأمن المائي والغذائي في الدول العربية، مثل المبادرة التي أقرتها القمة الاقتصادية والتنموية والاجتماعية العربية التي عقدت بالكويت في 2009م، والتي تضمنت إنشاء صندوق لدعم المشروعات التنموية، والبرامج التي أقرتها المنظمة العربية للتنمية الزراعية، كالبرنامج الطارئ للأمن الغذائي العربي في 2011م، ومبادرة تحقيق الأمن الغذائي العربي في 2020م، ومشروع "الاسكوا" مع الوكالة السويدية للتعاون الإنمائي عام 2014م، لدعم الأمن المائي والغذائي في المنطقة العربية من خلال التعاون وتنمية القدرات.
وتبين الإحصاءات أن جهود الدول العربية في مجال الغذاء وتقليل الفجوة الغذائية، لم تحقق النتائج المرجوة. ويشير تقرير المنظمة العربية للتنمية الزراعية لعام 2022م، إلى هذه النتيجة، فقد انخفض إنتاج الدول العربية في عدد من المحاصيل الرئيسية في عام 2022 مقارنة بعام 2021م. وعلى سبيل المثال، انخفض محصول الحبوب بنسبة 9.1%، ومحصول القمح بنسبة 12.1%، ومحصول الأرز بنسبة -24%، ومحصول الشعير بنسبة 23.5-%، والذرة الشامية بنسبة-6.7%، ومصول الفول السوداني بنسبة -0.3%، وزهرة الشمس بنسبة -0.1%، والبقوليات بنسبة -4.1%. واتصالًا بذلك، انخفضت الثروة الحيوانية بنسبة 2.8%، وإنتاج اللحوم الحمراء بنسبة -2.7%، وبيض المائدة بنسبة 7.5 %، والأسماك بنسبة -0.7%. وفي المقابل، ارتفع إنتاج الذرة الرفيعة والدخن بنسبة 22.4%، والسمسم بنسبة 10.8%، وفول الصويا بنسبة 7.9%، ومجموعة الدرنات (البطاطس والقلقاس والبطاطا) بنسبة 1.5%، ومجموعة الخضر بنسبة 6.5%، والفواكه بنسبة 3.1%.
في ضوء ما سبق، هناك حاجة ماسة إلى مراجعة وتقييم سياسات الري والزراعة في الدول العربية، واتخاذ قرارات "أكثر جرأة لبناء القدرات العربية"، وذلك حسب ما ورد في تقرير الهيئة العربية للاستثمار والإنماء الزراعي لعام 2022م، وذلك بهدف تعزيز التكامل الزراعي بينها، وجوهره "الاستفادة من تباين الموارد والإمكانات للدول العربية....، ومن التوزيع النسبي للموارد الطبيعية فيها" . كما ورد في تقرير الهيئة لعام 2023م.
ففي ظروف النظام الدولي الراهن وازدياد مساحات الخطر وعدم اليقين، ينبغي مواجهة تحديات الأمن المائي والغذائي في سياق ما تمثله هذه التحديات لأمن كل دولة عربية متفردة، وللأمن القومي العربي في مجمله. المطلوب، هو بلورة رؤية عربية استراتيجية لقضايا المياه والغذاء، فالتحديات التي تفرضها ندرة المياه ونقص الغذاء لم تعد قضايا فنية يبحثها الخبراء والفنيون، وإنما موضوعات تمس أمن الأوطان والشعوب.