إذ تطرح مجلة (آراء حول الخليج) في هذا العدد قضية الأمن المائي والغذائي في المنطقة العربية وكيفية مواجهة أزماتها، لإدراكنا بأهمية هذه القضية وتأثيرها المباشر على حاضر ومستقبل شعوب المنطقة كونها تتعلق بحياة الإنسان وكل الكائنات الحية في المنطقة، فالماء والغذاء صنوان الحياة ودونهما لا توجد حياة على سطح الأرض كما هو الحال في الكواكب غير المأهولة، وقد جاءت دراسات ومقالات هذا العدد لتوضح حجم ثروات المنطقة من الماء والغذاء مقابل احتياجاتها، و تكشف معدلات الشح المائي الذي تعاني منه منطقتنا سواء ما يتعلق بالمياه الجوفية، أو السطحية، أو مياه الأمطار ، إضافة إلى أنهارها التي يتدفق أهمها من دول جوار غير عربية وتخضع لظروف غير مواتية، كل ذلك مع زيادة عدد السكان وتنامي متطلبات التنمية ، ما يؤدي إلى زيادة الاحتياج إلى كميات أكبر من المياه العذبة، خاصة أن المنطقة العربية تقع في أشد مناطق العالم جفافًا وأقلها سقوطًا للأمطار ، مع ارتفاع معدلات البخر وانخفاض نصيب الفرد من المياه العذبة إلى حدود 600 متر مكعب سنويًا تقريبًا، وعلى ضوء ذلك تحتاج المنطقة إلى جهود دؤوبة لتوفير مصادر مياه بديلة وغير تقليدية، مع ضرورة ابتكار سياسات أكثر كفاءة لإدارة مصادر المياه المتاحة وتطويرها، ما يتطلب اتباع سياسات حديثة للري بعيدًا عن الطرق التقليدية خاصة بالنسبة للدول الزراعية التي تستخدم الري بالغمر ، للتحول إلى الري بالرش أو التنقيط، مع أهمية المحافظة على مخزون المياه الجوفية الذي يعاني من الاستخدام الجائر ما أدى إلى تناقصه وعدم تجدده، إضافة إلى تلوث هذا المخزون بسبب الأنشطة السكانية والصناعية وتسرب مياه الصرف غير المعالجة، و كذلك اختلاط مياه المخزون الجوفي بمياه البحار المالحة في المناطق الساحلية، إضافة إلى تأثره بالتغيرات المناخية، وارتفاع درجة الحرارة التي تهدد بزيادة منسوب البحار، ما يهدد الكثير من الأراضي الساحلية المنخفضة بالغرق.
وبما أن الأكاديميين والباحثين قد استفاضوا في هذا الملف بتوضيح الحقائق العلمية حول أزمتي المياه والغذاء في المنطقة، لذلك رغبت في الإشارة إلى التجارب الرائدة في المنطقة، وكيفية استثمارها والبناء عليها بما يؤسس لاستراتيجيات ناجحة تستفيد منها المنطقة عبر مشروعات مائية وغذائية مفيدة في حال الاستفادة من نتائجها، وكذلك الاستفادة من دراسات المراكز البحثية المتخصصة سواءً بتطوير قدرات المنطقة لتحلية المياه المالحة، أو معالجة مياه الصرف وإضافتها إلى المياه المستخدمة، أو بالشراكات الناجحة والاستثمارات المفيدة مع الدول غير العربية التي لديها فائض من المياه العذبة والأراضي الزراعية، لمواجهة معدلات الجوع المتزايدة في المنطقة العربية حيث يعاني الكثير من سكان المنطقة من الجوع.
وفي مقدمة المبادرات العربية الرائدة، إعلان صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء ـ يحفظه الله ـ عن إنشاء المنظمة العالمية للمياه في الرابع من سبتمبر 2023م، ومقرها الرياض، وتهدف إلى تطوير وتكامل جهود الدول والمنظمات لمعالجة تحديات المياه، عبر تبادل وتعزيز التجارب التقنية والابتكارات والبحوث، وإنشاء المشاريع النوعية ذات الأولوية وتيسير تمويلها، لضمان استدامة موارد المياه وتعزيز فرص وصول الجميع إليها، كما تهدف هذه المنظمة إلى العمل على تحقيق أهداف مشتركة مع الدول التي تواجه تحديات المياه، وتولي أهمية كبيرة للمشروعات القابلة للتنفيذ.
وأيضًا مبادرتي سموه ـ يحفظه الله ـ الرائدتين لمواجهة التصحر عام 2021م، وهما مبادرة السعودية الخضراء لزراعة 10 مليارات شجرة بالمملكة، تعيد تأهيل 40 مليون هكتار، وترفع نسبة المناطق المحمية إلى 30% من مساحة أراضي المملكة، ومبادرة الشرق الأوسط الأخضر لزراعة 40 مليار شجرة تخفض الانبعاثات الكربونية بأكثر من 60% بالمنطقة.
ومن الضروري تفعيل قرارات القمم العربية السابقة، وقرارات المجالس المنبثقة عن الجامعة العربية في هذا الشأن، ومن أهمها استراتيجية الأمن المائي العربي التي تبنت تحلية مياه البحار كخيار استراتيجي لتوفير المياه العذبة، وكذلك الاستفادة من مخرجات الاجتماعات المشتركة لوزراء الزراعة والمياه العرب التي تنعقد كل عامين، حتى يمكن استنباط سلالات جديدة من المحاصيل التي تعتمد على الري بالمياه المالحة والقابلة للزراعة في الأراضي الصحراوية.
وعلى صعيد تجربة تحلية المياه المالحة قطعت المملكة العربية السعودية شوطًا كبيرًا في هذا المجال ما جعل المملكة دولة رائدة عالميًا في التحلية حيث تأتي في الترتيب الأول عالميًا بنسبة إنتاج تصل إلى 18% من المياه المحلاة على مستوى العالم ما يجعلها نبراسًا للدول العربية التي تريد الاستفادة من المياه المحلاة لسد احتياجاتها، وهذه كلها تجارب ناجحة للمملكة من الضروري الاقتداء بها لمواجهة نقص الماء والغذاء.
وأيضًا لابد من جهد إقليمي ودولي للمساهمة في التوصل إلى حلول عادلة لحل الخلافات بين مصر والسودان من جهة، وبين إثيوبيا ودول حوض النيل من جهة أخرى للوصول إلى حل عادل دون إضرار بأي طرف من دول حوض النيل نتيجة للآثار المترتبة على إنشاء سد النهضة الإثيوبي، واتفاقية عنتيبي لضمان تحقيق الاستفادة الجماعية من مياه النهر واستمرار التعايش بين الدول المتشاركة، هذا التعايش الممتد على مدار التاريخ، وكذلك إيجاد حلول للتوترات بين العراق وسوريا من جهة، وتركيا وإيران من جهة أخرى حول تقاسم مياه نهري دجلة والفرات، لتحويل مياه الأنهار إلى وسيلة للتنمية المشتركة.
وفي الختام من الضروري أن تتجه دول المنطقة ودول الجوار العربي إلى التعامل مع قضايا المياه والغذاء من منظور التنمية ورفاهية الشعوب بالتعاون والاستفادة من المزايا النسبية لكل طرف لإبعاد شبح العطش والجوع والحروب، مع أهمية توظيف العلم والتكنولوجيا للتقليل من تأثير أزمات شح الماء والغذاء، وتحويل مصادر المياه إلى وسائل للتقارب والتعاون والاستفادة الجماعية والتعايش المشترك وليس الصراع، خاصة في ظل الأزمات الدولية التي تؤثر على إمدادات الغذاء كما هو الحال مع تداعيات الحرب الروسية / الأوكرانية أكبر دولتين لإمداد المنطقة العربية والعالم بالغذاء.