كثيرة هي العوامل التي كانت سبباً في نجاح اليمين المتطرف في بعض الدول الأوروبية، بعضها ارتبط بقدرة مرشحي اليمين على إقناع الناخبين بإمكانية إيجاد حلول لقضايا مثل البطالة والصحة والتعليم، والبعض الآخر ارتكز على توظيف بعض التوجهات المجتمعية المعادية للمهاجرين، وتداعيات الحرب الأوكرانية على أوروبا عموماً وخاصة الجانب الاقتصادي، وإخفاق النخب التقليدية الحاكمة في أوروبا في منع تلك الحرب أو على الأقل مواجهة تداعياتها، تلك النخب التي واجهت سيلاً من الانتقادات لدعمها العسكري لأوكرانيا، وبوجه عام استطاع اليمين المتطرف توظيف حالة اللايقين التي كانت تسود المجتمعات الأوروبية جراء التحديات الداخلية والظروف الإقليمية والمناخ الدولي عموماً، وأثار هذا الصعود لليمين المتطرف العديد من التساؤلات وخاصة على صعيد السياسات الخارجية المتوقعة للاتحاد الأوروبي ومن بينها اتجاه منطقة الخليج العربي وهو ما سوف يكون موضوعاً لهذه الورقة.
خلفية موجزة حول مسار العلاقات الخليجية-الأوروبية
تعود علاقات دول الخليج العربي مع الدول الأوروبية بشكل جماعي إلى عام 1987م، عندما وافق مجلس التعاون لدول الخليج العربية على الدخول في مفاوضات مع الاتحاد الأوروبي للتوصل لاتفاقية تمثل إطاراً للتعاون وهو ما تحقق بالفعل في العام التالي 1988م، أخذاً في الاعتبار أن علاقات دول الخليج العربي بالدول الأوروبية بشكل ثنائي تعود إلى ما قبل تلك السنوات، وقد استهدفت تلك الاتفاقية الإطارية تطوير التعاون في المجالات كافة بما فيها إنشاء منطقة تجارة حرة بين الجانبين، ومع إحراز تقدم ملموس في التعاون في العديد من المجالات إلا أن المفاوضات بشأن إنشاء منطقة تجارة حرة لم تصل مبتغاها لأسباب عديدة من بينها بعض المطالب التي أثارتها دول الاتحاد لإبرام تلك الاتفاقية والتي لم تجد قبولاً لدى دول الخليج العربي التي أعلنت تعليق المفاوضات مع الجانب الأوروبي عام 2008م، بعد مسيرة عشرين عاماً من التفاوض، على الرغم من أن الاتحاد الأوروبي كان آنذاك هو الشريك التجاري الأول لدول الخليج العربي ، وفي عام 2019م، عقد اجتماع مشترك بين الجانبين في بروكسيل لبحث إمكانية استئناف المفاوضات في ظل العلاقات التجارية المتميزة حيث بلغ معدل التبادل التجاري بينهما في عام 2018م، حوالي 170 مليار دولار، وكان التطور الأهم هو إطلاق الاتحاد الأوروبي وثيقة الشراكة مع دول الخليج العربي في مايو 2022م، والتي تضمنت تفصيلاً لمضامين تلك الشراكة وآليات تنفيذها، صحيح أن دول الخليج العربي دائماً ما كانت تنتظر من الاتحاد الأوروبي رؤية موحدة بشأن تلك الشراكة إلا أن توقيت إطلاقها وخاصة مع احتدام الحرب الأوكرانية وتأثير ذلك على أزمة الطاقة أمر ذو دلالة وهو ما وصفه الزميل د كريستان كوخ بالقول" أن إصدار الوثيقة ليس مرتبطاً بالأزمة الأوكرانية ولكنها زادت من إلحاح إعلان الوثيقة"، تلا ذلك إعلان الاتحاد الأوروبي تعيين أول مبعوث خاص لمنطقة الخليج العربي وهو لويجي دي مايو وزير الخارجية الإيطالي الأسبق والذي تسلم مهام منصبه في يونيو 2023م لمدة 21 شهراً ووفقاً لبيان المجلس الأوروبي فإن المهمة الأساسية للمبعوث الجديد تتمثل في" تطوير شراكة استراتيجية أقوى وأكثر شمولاً مع دول الخليج العربي" والذي شارك في مؤتمر مركز الخليج للأبحاث في يوليو 2024م، وألقى كلمة مهمة أكد خلالها على حرص الاتحاد الأوروبي على وضع مضامين مبادرة الشراكة موضع التنفيذ والتي بدأت تؤتي ثمارها بالفعل من خلال تمديد فترة تأشيرة دخول أبناء بعض دول الخليج العربي للاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى وجود تمثيل دبلوماسي للاتحاد الأوروبي من خلال السيد كريستوف فارنو، سفير الاتحاد الأوروبي لدى كل من المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان ومملكة البحرين والمقيم في الرياض، وعلى الصعيد التجاري بلغ حجم التجارة بين الاتحاد الأوروبي ودول الخليج العربي 174 مليار يورو عام 2022م، بما يجعل الاتحاد الأوروبي هو الشريك التجاري الثاني لدول الخليج العربي.
محددات السياسة الأوروبية المتوقعة تجاه منطقة الخليج العربي
قبيل الحديث عن التوقعات بشأن تأثير صعود اليمين المتطرف في أوروبا على ثبات أو تغير سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه منطقة الخليج العربي يتعين أولاً تناول محددات تلك السياسة أو بالأحرى مرتكزاتها وأولها: المصالح الحيوية للاتحاد الأوروبي في منطقة الخليج العربي والتي كانت سبباً في إطلاق الاتحاد استراتيجية متكاملة لدول الخليج عام 2022م، والتي بلغت 17 صفحة من بينها 3 صفحات تضمنت الحديث عن رؤية الاتحاد الأوروبي لأمن الخليج العربي فيما تضمنت بقية الوثيقة القضايا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وقد أسفرت تلك الشراكة عن نتائج مهمة منذ إطلاقها وحتى الآن منها تمديد فترة تأشيرة الاتحاد الأوروبي لأبناء بعض دول الخليج العربي لخمس سنوات، بالإضافة للمصالح الاقتصادية المهمة للاتحاد الأوروبي مع دول الخليج العربي التي تعد شريكاً تجارياً مهماً إذ تعد ثامن أكبر اقتصاد على مستوى العالم حيث بلغ نموها السنوي حوالي 6 % وإجمالي ناتج محلي بلغ 2,4 تريليون دولار، فضلاً عن امتلاك دول الخليج العربي 5 من بين 10 صناديق سيادية كانت الأعلى إنفاقاً في العالم عام 2022م باستثمارات بلغت 74 مليار دولار، وثانيها: الأخذ بالاعتبار أن هناك مستويان من السياسات الأوروبية الأول: النهج الجماعي للاتحاد الأوروبي من خلال مؤسسات الاتحاد، والثاني: سياسات الدول الأوروبية بشكل فردي وربما تكون الأخيرة هي الأكثر تأثيراً، فعلاقات الاتحاد الأوروبي من خلال دوله مع نظيراتها من دول الخليج العربي تشهد تطورات ملحوظة في المجالات كافة، ودول الخليج العربي تدرك تلك الثنائية، وهو أمر ملحوظ حتى ضمن علاقات الاتحاد الأوروبي مع القوى الكبرى الأخرى، فما يهم الاتحاد الأوروبي هو المصالح أولاً وأخيراً، فعلى سبيل المثال أكد وزير خارجية المجر رفض بلاده لسياسة العقوبات على واردات النفط الروسي، مشيراً إلى أن تلك الواردات تمثل حوالي 65% من احتياجات المجر على الرغم من أن ذلك يعد خروجاً على الإجماع الأوروبي بشأن روسيا، وثالث محددات السياسة الأوروبية هو حقيقة أن 23 دولة من بين دول الاتحاد الأوروبي الــ 27 لديها عضوية في الوقت ذاته في حلف شمال الأطلسي "الناتو" البالغ عدد دوله 32 دولة، وهذا يعني أن الدول الأوروبية توازن مصالحها داخل المنظمتين وهو ما ينعكس بالإيجاب على السياسة الخارجية الأوروبية تجاه الخليج العربي أخذاً في الاعتبار أن هناك تطوراً مهماً شهدته سياسة حلف الناتو تجاه الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والخليج العربي وهو إصدار الحلف وثيقة استراتيجية تحدد السياسات المستقبلية للحلف تجاه تلك المنطقة في مايو 2024م، التي أسماها الحلف "بالجنوب" وتمت مناقشتها خلال قمة الحلف في يوليو2024م، بواشنطن، وعلى الرغم من إصدار الحلف لما يسمى "المفهوم الاستراتيجي" وهو وثيقة أمنية رفيعة المستوى تصدر كل عشر سنوات إلا أن إصدار الحلف لتلك الوثيقة لمنطقة جغرافية فرعية يعكس إدراك الحلف لأهميتها، صحيح أنها لم تشر لمنطقة الخليج العربي مباشرة لأن لدى الحلف بالفعل شراكة مع دول الخليج من خلال مبادرة اسطنبول التي أطلقها عام 2004م، وانضمت إليها أربع دول خليجية، ولكن صدور تلك الوثيقة يعني المزيد من التزام الحلف تجاه أمن تلك المنطقة وهو المنظمة التي تضم في عضويتها معظم الدول الأوروبية كما تمت الإشارة، ورابع تلك المحددات طبيعة ومرحلة تطور الاتحاد الأوروبي، فالاتحاد الأوروبي لم ينشأ كتحالف دفاعي على غرار حلف الناتو وإنما كتجمع اقتصادي" الجماعة الأوروبية للفحم والصلب عام 1951م"، صحيح أنه كانت هناك محاولات أوروبية- ولازالت- لبلورة هوية أمنية ليست مستقلة عن الناتو تماماً وإنما تتكامل معه ولكن لم تكلل تلك الخطوات بالنجاح حتى الآن بل أن الأزمة الأوكرانية أكدت وبما لا يدع مجالاً للشك حقيقة الانكشاف الأمني الأوروبي ومحورية الدور الأمريكي في الأمن الأوروبي وهو الأمر الذي ينسحب في الوقت ذاته على الشرق الأوسط والخليج العربي حيث أنه سيكون من مصلحة النخب الأوروبية الجديدة الاستمرار في منطقة الشرق الأوسط لدعم السياسات الأمريكية في ظل استمرار وجود مصالح حيوية للاتحاد في تلك المنطقة ليس أقلها تأمين طرق البحرية لتجارة الاتحاد مع مناطق مختلفة من العالم، بمعنى آخر لو أن سياسات اليمين المتطرف اتخذت خطوات جذرية بشأن قضايا الهجرة وخاصة أن الاتحاد الأوروبي أصدر بالفعل ميثاقاً جديداً للهجرة وغيرها من قضايا السياسة الخارجية تجاه منطقة الشرق الأوسط ومنها المناخ والبيئة فإن قضية أمن الطاقة والأمن البحري والتعاون بين منظمات المجتمع المدني والقوة الناعمة عموماً ستظل قضايا تحظى باهتمام النخب الأوروبية الجديدة ولا يتوقع أن تكون هناك سياسات مختلفة بشأنها ، أما العامل الخامس والأخير فهو أنه يجب التفرقة بين الشعارات الانتخابية والمصالح الجوهرية ، فعلى سبيل المثال خلال الحملات الانتخابية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب قبيل وصوله للسلطة في الولايات المتحدة عام 2016م، انتقد ترامب حلف الناتو مشيراً إلى أن الولايات المتحدة سوف تنسحب من الحلف حال وصوله للسلطة ولكن خلال إلقائه خطاب حالة الاتحاد في أعقاب الفوز أكد على أهمية تحالفات وشراكات الولايات المتحدة، بما يعنيه ذلك من أن السياسة الواقعية تختلف بشكل جذري عن الشعارات الانتخابية، ومن ثم فإن للاتحاد الأوروبي مصلحة أكيدة في تطوير وتعزيز علاقاته مع منطقة الخليج العربي خلال السنوات المقبلة أخذاً في الاعتبار أن منطقة الخليج العربي تشهد تنافساً محتدماً بين القوى الكبرى مجدداً، فروسيا أطلقت مبادرة في عام 2019م، بعنوان" مفهوم روسيا للأمن الجماعي في منطقة الخليج العربي"، أما الصين فقد أطلقت مبادرة" لأمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط " عام 2021م تضمنت خمس نقاط، وصولاً لوثيقة حلف شمال الأطلسي" الناتو" تجاه الجنوب التي أطلقها الحلف في مايو 2024م، وفي خضم تلك المبادرات بغض النظر عن درجة اهتمام دول الخليج العربي بها من عدمه فإن الاتحاد الأوروبي مدعو الآن وأهم من أي وقت مضى للانخراط وبشكل أكبر مع دول الخليج العربي لتعزيز وتطوير الشراكة الأوروبية- الخليجية التي تتضمن قضايا مهمة وتحقق النفع للجانبين بشكل متوازن.
تأثير صعود اليمين المتطرف على السياسة الأوروبية تجاه الخليج العربي
على الرغم من أنه من المبكر الحديث عن ملامح تأثير فوز اليمين المتطرف على سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه الخليج العربي ولكن دائماً دول الخليج العربي كغيرها من دول العالم معنية بتغير النخب السياسية وخاصة في الدول والمنظمات التي لديها شراكات مهمة مع دول الخليج ومن بينها الولايات المتحدة ذاتها خلال الحملات الرئاسية الحالية حامية الوطيس بين الجمهوريين والديمقراطيين، صحيح أن هناك مصالح استراتيجية بين منطقة الخليج والدول الأوروبية إلا أن دول الخليج العربي معنية بتأثير صعود اليمين المتطرف لثلاثة أسباب الأول: المواقف السابقة لمؤسسات الاتحاد الأوروبي وخاصة البرلمان الأوروبي بشأن قضايا داخلية هي من صميم الشأن الداخلي ولا يحق لأي طرف التدخل فيها ومنها قضية حقوق الإنسان التي صدرت بشأنها تقارير سابقة من البرلمان الأوروبي واستنكرها ورفضها مجلس التعاون لدول الخليج العربية من خلال بيانات رسمية في هذا الشأن، وقد يكون من المبكر الحديث عن تلك القضية ولكنها غالباً ما تثار ضمن مساعي الاتحاد الأوروبي للحصول على مكاسب أو تعظيم الفائدة من شراكاته مع مناطق مختلفة في العالم ومن بينها دول الخليج العربي، وما يراه من أن المصالح ترتبط على نحو وثيق أيضاً بالقيم، وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى الخطة التي أعلنها الاتحاد الأوروبي بشأن التزام الاتحاد بتعزيز ودعم حقوق الإنسان على مستوى العالم لمدة خمس سنوات خلال الفترة من 2020وحتى 2025م، حيث قال جوزيب بوريل الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية "هناك حاجة إلى قيادة الاتحاد الأوروبي في مجال حقوق الإنسان والديمقراطية أكثر من أي وقت مضى"،،وحتى مع وجود ممثل جديد للاتحاد الأوروبي خلفاً لبوريل فإنه سيكون ملتزماً بالمبادئ والاستراتيجيات ذاتها، ومن جانبها تحرص دول الخليج العربي على الالتزام بالحفاظ على حقوق الإنسان ليست كدول فرادى فحسب ولكن من خلال منظومة مجلس التعاون أيضاً وهو ما أشار إليه السيد جاسم محمد البديوي، الأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، في الثاني عشر من ديسمبر 2023م بمناسبة الذكرى الخامسة والسبعين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان حيث أكد على" التزام دول مجلس التعاون الراسخ بحقوق الإنسان وبأجندة التنمية المستدامة"، ويعني ما سبق أنه بغض النظر عما هو متوقع من الجانب الأوروبي بشأن تلك القضية فإن هناك موقف خليجي جماعي موحد بشأنها، بالإضافة إلى التزام دول الخليج العربي بكافة المواثيق الدولية ذات الصلة، والثاني: الجدل بشأن وجود رؤية أوروبية جديدة بشأن أمن الخليج العربي أو بالأحرى أن يكون الخليج العربي ضمن أولويات السياسة الخارجية الأوروبية ، وهذا مردود عليه بأنه لن يكون هناك تغير كبير في مضامين السياسة الأمنية الأوروبية تجاه أمن الخليج العربي في ظل وجود اليمين المتطرف لأن تلك السياسة بالفعل لاتزال متواضعة بالرغم من إرسال بعثتين بحريتين أوروبيتين لحماية الملاحة البحرية الأولى بقيادة فرنسا بدأت عملها عام 2020م، لمراقبة الملاحة البحرية في مضيق هرمز، والثانية بقيادة إيطاليا وبدأت عملها في فبراير 2024م، لردع تهديدات الحوثيين للملاحة البحرية في البحر الأحمر ومضيق هرمز، وعلى الصعيد الإقليمي الأوسع فإنه من المتوقع أن تستمر السياسة الأوروبية ذاتها تجاه إيران حيث تلعب أوروبا دوراً مهماً كوسيط في المفاوضات النووية بين الولايات المتحدة وإيران وبالرغم من توقفها فقد صدرت تصريحات رسمية من المرشد الأعلى علي خامنئي تؤكد رغبة إيران في استئناف المفاوضات النووية مع الولايات المتحدة وهو ما يلتقي مع توجهات دول الخليج العربي ذاتها التي لا تريد حروباً جديدة في المنطقة، فضلاً عن المسارات الجديدة لتحسين العلاقات بين إيران والسعودية عام 2023م، ووجود توجهات إيجابية من جانب مملكة البحرين للانضمام للمسار ذاته، بالإضافة لاستمرار الدور الأوروبي الإنساني تجاه أزمات الأمن الإقليمي والتي تمثل تحدياً لأمن دول الخليج العربي ومن بينها الأزمة اليمنية ومن ذلك تخصيص الاتحاد الأوروبي في مايو 2024م حوالي 120 مليون يورو لمواجهة الاحتياجات الإنسانية المتزايدة للفئات الأكثر ضعفاً في اليمن، توازياً مع جهود دول الخليج العربي عموماً في هذا الشأن والجهود السعودية خاصة من خلال مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، حيث تعد المملكة هي الداعم الأول لليمن إذ بلغ إجمالي مساعدتها لليمن حتى العام 2023م، حوالي 26 مليار دولار، وعلى الصعيد الشرق أوسطي، على الرغم من توافق الباحثين الذين أولوا اهتماماً لسياسات الاتحاد الأوروبي تجاه منطقة الشرق الأوسط على أن تلك السياسات لا تذهب بعيداً عن السياسات الأمريكية حيث كانت دعماً أو تفسيراً لتلك السياسات فإن المشهد الراهن ربما يبدو مختلفاً، فمع تداعيات الحرب في غزة وتماس تداعياتها وخاصة الإنسانية مع جوهر السياسة الأوروبية التي تعكس هوية الاتحاد الذي يعلي من القوة الناعمة ومن بينها حل النزاعات بالطرق السلمية فإن الاتحاد الأوروبي في ظل النخبة الجديدة ربما يجد أن الفرصة سانحة الآن لأن يكون له دور أكثر تأثيراً في قضايا الشرق الأوسط دون مزاحمة الدور الأمريكي الذي لايزال محورياً تجاه قضايا منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي.
مستقبل العلاقات الخليجية-الأوروبية في ظل اليمين المتطرف
مع أهمية ما سبق فإن الحديث عن مستقبل العلاقات بين الجانبين ينطلق من خمس معطيات وهي:
الأولى: من الطبيعي أن تنعكس توجهات النخب الحاكمة على سياساتها ولكن ليس بالضرورة أن تكون هناك تغيرات دراماتيكية في تلك السياسات، صحيح أن هناك ثمار بدأت تلوح في الأفق للشراكة الخليجية- الأوروبية ومنها على سبيل المثال رغبة دول الخليج العربي في الإعفاء من التأشيرة الأوروبية كما هو الحال مع دول أخرى مثل روسيا على سبيل المثال، إلا أن ذلك الهدف ربما يستغرق الأمر وقتاً أطول في ظل وجود اليمين المتطرف والذي تعود بعض عوامل فوزه لموقفه المتشدد من قضايا الهجرة، ولعل ما يؤكد ذلك ما أشار إليه لويس بوينو الناطق باللغة العربية في الاتحاد الأوروبي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تعليقاً على مطالب دول الخليج بالإعفاء من تأشيرة الدخول للدول الأوروبية بالقول" العملية نوعاً ما معقدة ولا بد أن تمر بمجلس الاتحاد الأوروبي، والبرلمان الأوروبي أخذاً في الاعتبار نتائج انتخابات يونيو 2024"، ولعل ما يؤيد ذلك التصريح أن لدول الخليج العربي خبرة مع طول الفترات الزمنية لإبرام شراكات مع الاتحاد الأوروبي منها مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة بين الجانبين منذ الاتفاق الإطاري بين الجانبين منذ عام 1988م، والتي لم يتم توقيعها حتى الآن.
الثانية: إن المتتبع لمواقف مؤسسات الاتحاد الأوروبي بشأن قضايا حقوق الإنسان والتي لها خصوصية في دول الخليج العربي وتعد شأناً داخلياً محضاً، يجد أن إثارة تلك القضايا لا يكتسب صفة الديمومة وإنما تأتي في سياق مواقف وقتية، ولكن لا يعني ذلك أنها ليست ضمن أجندة الاتحاد الأوروبي فلم يتخل عنها تماماً ولكنها ليست الأولوية في العلاقات مع الخليج العربي في الوقت الراهن، ومما يؤكد ذلك أنها جاءت الفقرة الأخيرة في استراتيجية الشراكة التي أعلنها الاتحاد الأوروبي مع دول الخليج العربي في مايو 2022م، حيث تضمنت تلك الفقرة" ضمن تلك الشراكة سوف يولي الاتحاد الأوروبي اهتماماً خاصاً بسيادة القانون وحقوق الإنسان".
الثالثة: إن الحديث عن دور الاتحاد الأوروبي في الشرق الأوسط والخليج العربي ازدهاراً أو انحساراً في ظل اليمين المتطرف يرتبط على نحو وثيق بالدور التقليدي للاتحاد الأوروبي، فمع أن الدول الأوروبية كانت داعماً مهماً للولايات المتحدة سواء خلال حماية ناقلات النفط في الحرب العراقية -الإيرانية، ومشاركة 12 دولة أوروبية في التحالف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة لتحرير الكويت عام 1991م، فإن الاتحاد الأوروبي ليس بمقدوره التدخل العسكري بمفرده في أزمات المنطقة وسيظل مكملاً للدور الأمريكي، ربما تكون لدى الاتحاد الأوروبي أولويات في قضايا السياسة الخارجية لكن دون أن يمس ذلك مصالحه الجوهرية مع الخليج العربي.
الرابعة: من مصلحة الاتحاد الأوروبي استعادة مكانته لدى دول الخليج العربي مجدداً وخاصة على الصعيد التجاري أخذاً في الاعتبار أن الاتحاد كان الشريك التجاري الأول لدول الخليج، بيد أن الصين حلت محل الاتحاد وأصبحت الشريك التجاري الأول لدول الخليج العربي منذ عام 2020م، وحتى الآن، وفي ظل تداعيات الأزمة الأوكرانية وخاصة على صعيد قطاع الطاقة فإن دول الخليج العربي تقدم فرصاً واعدة للتعاون مع الاتحاد الأوروبي في هذا المجال.
الخامسة: على الرغم من التطور الملحوظ في العلاقات الخليجية-الإيرانية فإنه لاتزال هناك قضايا تحتاج فيها دول الخليج العربي لشراكات دولية ومنها الملف النووي الإيراني، وانطلاقاً من خبرة الاتحاد الأوروبي التفاوضية واضطلاعه بدور مهم في هذا الملف فإنه سوف يكون أحد محاور التعاون وسيكون لدى دول الخليج العربي حرص على تفعيل الدور الأوروبي كوسيط بين الولايات المتحدة وإيران وهو ما يتسق مع جوهر السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي التي تعلي من مبدأ حل النزاعات بالطرق السلمية ومن بينها آلية التفاوض.
ومجمل القول أن دول الخليج العربي يظل أحد خياراتها الاستراتيجية تأسيس شراكات دولية ومن بينها الشراكة مع الاتحاد الأوروبي الذي لديه مزايا مقارنة بشراكات الخليج الأخرى سواء مع حلف الناتو أو الولايات المتحدة الأمريكية، ومن مزايا الاتحاد الأوروبي التعامل مع دول الخليج العربي كتجمع إقليمي من خلال مجلس التعاون بالتوازي مع العلاقات الثنائية، بالإضافة للقرب الجغرافي لأوروبا من منطقة الخليج فتلك المنطقة هي جوار الجوار بالنسبة لأوروبا، فضلاً عن إعلاء الاتحاد الأوروبي لمفهوم الأمن الناعم وهو ما يلتقى مع قناعات دول الخليج العربي ،فضلاً عن الجهود الإنسانية للفئات الأكثر تضرراً من الأزمات الإقليمية والتي للاتحاد الأوروبي ودول الخليج تجارب متميزة فيها.