خلفية تاريخية لفكرة المغرب العربي: عدّ فكرة تأسيس مغرب عرب موحّد فكرة متجذّرة لدى شعوب المنطقة ونخبها السياسية والفكرية والثقافية التي عملت جميعها ومن مواقع متعدّدة على نشر الفكرة وتكريسها في الواقع. فمنذ الربع الأوّل من القرن العشرين برزت ملامح فكرة توحيد المنطقة على أساس تحرّري وذلك عندما أسّس التونسي "محمد باش حامبة" في جينيف بسويسرا مجلّة ناطقة بالفرنسة حملت اسم "Le Maghreb" انصبّ اهتمامها بقضايا دول المغرب العربي الرازحة تحت الاستعمار الفرنسي. ثمّ تأسّست في برلين خلال شهر يناير 1916م، "لجنة استقلال تونس والجزائر". ومن بين الأهداف التي حدّدتها المجموعة للقيام بها "الدعاية المضادّة للسياسة الفرنسية في شمال أفريقيا والعمل من أجل استقلال المنطقة". وظلّت هذه الفكرة راسخة في ذهن قيادات الأحزاب الوطنية المغاربية وفي ممارساتها. ففي تونس مثلا ضمّ الحزب الحر الدستوري التونسي الكثير من المغاربة المقيمين بالبلاد التونسية وخاصّة من الجزائريّين بل منهم من ساهم في تمويل هذا الحزب ماليا في حين تولّى البعض الآخر مسؤوليات متقدّمة في قيادة هذا الحزب. وكان الشيخ عبد العزيز الثعالبي قد تحدّث في وقت مبكّر عن ضرورة تأسيس حزب مغاربي بهدف "تجميع سكان أفريقيا الشمالية في حزب قويّ لتحقيق مطالبهم في الوحدة والحرّية" وكان هاجس وحدة المغرب حاضرا لدى النخبة المغاربية المتواجدة في فرنسا التي تمكّنت من بعث جمعيّة" نجم شمال أفريقيا" في مارس 1926م، التي ضمّت في صفوفها العمّال من مسلمي الجزائر وتونس والمغرب الأقصى وكان من أهدافها "الدفاع عن المصالح المادّية والمعنوية والاجتماعية لمسلمي شمال أفريقيا إضافة إلى التربية الاجتماعية والسياسية لكلّ أعضائها"، كما أسّس الطلبة المغاربة المقيمون بفرنسا جمعية خاصّة بهم أطلقوا عليها اسم "جمعية طلبة شمال أفريقيا المسلمين في باريس" )15 نوفمبر 1927م( وقد لعبت هذه الجمعية دورا محوريا في تأطير الطلبة المغاربة سياسيا وتهيئتهم للعب دور محوري في قيادة النضال الوطني في بلدانهم المغاربة. وتواصل هذا الاهتمام وهذا الهاجس طيلة الفترة الاستعمارية واتّخذ هذا النشاط أبعادا سياسية نضالية أكثر وضوحا خاصّة بعد تأسيس مكتب المغرب العربي في دمشق والقاهرة سنة 1947 م، ولجنة تحرير المغرب العربي في ديسمبر 1947م. وانعقد بعد استقلال كلّ من تونس والمغرب مؤتمر طنجة (28-30/4/1958م) وضمّ ممثّلين عن حزب الاستقلال(المغرب) والحزب الحرّ الدستوري التونسي وجبهة التحرير الوطني الجزائرية وكان همّ المؤتمر مساعدة جبهة التحرير الجزائرية في نضالها الوطني التحرّري من جهة ووضع أسس وحدة بلدان المغرب العربي.
ورغم فشل تلك الصيغة في تحقيق الكثير من أهدافها فقد استمرّت محاولات التوحيد متّخذة أشكالا متنوّعة تتماشى مع الواقع الجديد لدول وحكومات المغرب العربي، فاهتمّت النخب السياسية الحاكمة بصياغة أفكار وصيغ للتعاون والتكامل بين دولها. فتمّ إنشاء اللجنة الاستشارية للمغرب العربي سنة 1964 م، بهدف تفعيل الروابط الاقتصادية بينها وصولا إلى اجتماع قادة المغرب العربي بمدينة زرالده في الجزائر (10/6/1988م) الذين أصدروا بيانا (بيان زرالده) الذي أكدّ رغبة القادة المغاربة في إقامة الاتّحاد المغاربي وتكوين لجنة تضبط آليّات تحقيق وحدة المغرب العربي.
ويبدو أنّ قيام الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي قد مثّلا حافزا لشعوب المنطقة ونخبها لتشكيل قوة إقليمية فاعلة وكان من المؤمّل أن يساعد الاتّحاد الأوروبي في قيام مثل هذا التكتل باعتبار أنّ ذلك يضمن تفاهما أوسع وتضامنا أكبر بين تكتّلين إقليميين غير أنّ الأمر لم يكن كذلك... وكان الإعلان عن قيام اتّحاد المغرب العربي في 17/2/1989م، بمدينة مراكش (برغم تواضع المشروع مقارنة بالصيغ السابقة في مرحلة التحرّر الوطني) تحقيقا لحلم ولأمل ناضلت من أجل تحقيقه أجيال متعاقبة من شعوب المغرب العربي. غير أنّ هذا الإرث التاريخي "المتنوّع والمتين" لم يفلح في إقامة علاقات استراتيجية بين أقطار المنطقة بالرغم التحدّيات التي تواجه شعوبها.
- تحدّيات متنوعة ومتشابكة لعدم تحقيق الاندماج المغاربي:
تتجاوز تكلفة عدم الاندماج بين الدول المغاربية، حسب خبراء البنك الدولي نحو 2% من نموّ الناتج المحلّي الإجمالي سنويا، ويخسر اقتصادها سنويا بين 2 إلى 3 في المائة من النموّ بسبب إغلاق الحدود (بين المغرب و الجزائر، و بين ليبيا وتونس أحيانا) كما أن ضعف التجارة البينية والغياب شبه الكامل في التنسيق المالي والاستثماري بينها، جعلها المنطقة الأقلّ اندماجا إقليميا (2,5 %من التجارة ) إذ تعتبر تلك النسبة "منخفضة جدّا من حيث القيمة المطلقة " لإجمالي تجارة البلدان الأعضاء في الاتّحاد مقارنة بالتجمّعات التجارية الإقليمية الأخرى التي يشير إليها التقرير، مثل ميركوسور (Mercosur)في أمريكا الجنوبية (14.7%) والجماعة الاقتصادية لبلدان غرب أفريقيا( 8.7 % ) كما تحتاج دول المغرب العربي الخمس إلى معدلات نموّ مرتفعة لا تقلّ عن 6 في المئة لتسريع التنمية الاقتصادية والبنى التحتية، وتوفير فرص عمل لما يقارب نصف مليون عاطل إضافي يمكن أن يدخلوا سوق العمل سنويا. كما يمثّل الإرهاب ظاهر خطيرة عرفتها المنطقة منذ تسعينات القرن الماضي توسّعت وتمدّدت خاصة أوائل الالفية الثالثة و خاصة بعد حدث ما يعرف بـ "ثورات الربيع العربي" حيث استفحلت الظاهرة في المنطقة (المغرب وتونس وتحديدا ليبيا) نتيجة عدة عوامل منها خاصّة عدم وجود تنسيق مغاربي للتصدّي لنشاط تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي الحاضر بقوّة في المنطقة وعلى حدوها الافريقية : مالي...
وتواجه المنطقة منذ سنوات مخاطر التغيّرات المناخية والكوارث الطبيعية، ما أدّى الى تغير منسوب تهاطل الأمطار بسبب الاحتباس الحراري وتراجع توفّر المياه بنسبة 60% بالإضافة إلى سوء صيانة شبكة التوزيع ونقص في البنى التحتية لتطهير المياه...وتشير التوقّعات إلى أنّ المنطقة ستتكبّد أقسى التداعيات الناجمة عن تغيّر المناخ نتيجة تراجع معدّلات هطول الأمطار وارتفاع درجات الحرارة فيها، ما سيخلّف عواقب فادحة على النُظم الزراعية القائمة ويتسبّب بمزيد من الضغط على الموارد المحدودة أصلا. فعلى سبيل المثال، أسفر الجفاف خلال شتاء 2021-2022 م، عن انخفاض غلّة محاصيل القمح إلى ما دون المتوسط في وسط تونس والمغرب كما ينجرّ عن ذلك اهتزاز الامن الغذائي... وقد تفاقمت هذه المشكلة بسبب تداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية، وما تلاها من اضطرابات كبيرة في عمليات الإمداد العالمية ما أدّى الى ارتفاع أسعار المواد الغذائية وانخفاض قيمة العملات المحلّية، وتراجع القدرة الشرائية للمستهلكين وارتفاع معدّل التضخّم.
اقتصاديا: ضعف التصنيع و الإنتاج الاقتصادي و الاستثمار و التبادل التجاري بين البلدان المغاربية واستمرار تبعيتها الاقتصادية للخارج و ضعف قدرتها على مواجهة تحدّيات العولمة .. وقوّة المنافسة الخارجية وعجز الميزان التجــــاري لدى أغــــــلب دول الاتّحاد بالإضافة إلى ارتفاع حجم المديونية وأعباء الديْن العام، إذ يكاد يستغرق في بعض البلدان ثمار جهد التنمية، ويستوعب عائدات التجارة الخارجية (معدّل خدمة الدين في تونس نحو 18.7% سنة 2020م) وهو ما يشكل ضغطا على الموارد من العملات الأجنبية، ويرهن مستقبل الأجيال القادمة بتحميلها أعباء ليست مسؤولة عنها، ولم تستفد منها.
اجتماعيا: ارتفاع نسب الفقر والبطالة (موريتانيا: 10.63% ديسمبر 2023، الجزائر: 11.8% المغرب: 13.1% يونيو 2024 تونس: 16% يونيو 2024 ليبيا: 18.5% ديسمبر 2023م) و الأمّية وضعف التغطية الصحية و انخفاض مستوى التنمية البشرية تنامي ظاهرة الهجرة السرّية و هجرة الأدمغة (الكفاءات العلمية) .. كما أنّ أكثر من نصف القوى العاملة في المنطقة تعمل في الاقتصاد غير الرسمي (الموازي)، دون عقود أو برامج تأمين اجتماعي. إنّ تقاطع التهميش الاقتصادي والتأخّر التنموي والتعسّف القانوني جعل من عمل غير أنّ كل هذه التحدّيات لم تدفع باتجاه لقاء قادة الدول المغاربية حتّى في مستوى الحد الأدنى لمواجهة هذه التحديات وتجاوزها بل تعمّق الاختلال في العلاقات، وبرزت تحالفات ومعسكرات جديدة في المنطقة باتّجاهات مختلفة. ومع استمرار القطيعة بين المغرب والجزائر بسبب نزاع الصحراء، وقطع الجزائر علاقاتها مع الرباط بعد أزمة دبلوماسية حادّة وصولا إلى فرض الجزائر التأشيرة على المواطنين من المملكة المغربية (شهر أكتوبر 2024م) ناهيك عن الأزمة بين تونس والمغرب تطبيع المملكة المغربية مع "إسرائيل"...ثمّ تزايد التقارب التونسي الجزائري منذ صعود الرئيس التونسي قيس سعيد إلى سدّة الرئاسة في العام 2019 م، التي تمتّنت أكثر مع الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية الحادّة في تونس بعد أزمة الطاقة العالمية وحاجة تونس إلى الغاز الطبيعي الجزائري. واتّخذت العلاقة بين البلدين (تونس والمغرب) منذ أكتوبر 2021م، منعرجا خطيرا إثر امتناع تونس عن التصويت لقرار مجلس الأمن الخاصّ بالتمديد لبعثة الأمم المتحدة في الصحراء الغربية، ووصل إلى أوجه في صيف 2022م، مع الاستقبال الرسمي لإبراهيم غالي(رئيس) "البوليساريو"، -الذي قدم للمشاركة في القمة اليابانية -الأفريقية، التي أقيمت في تونس. الأمر الذي دفع المغرب إلى الانسحاب من القمّة، وسحب سفيره من تونس التي ردّت بالمثل وهو سلوك يمثّل خروج تونس عن السياسة التقليدية التونسية إزاء الموقف من قضية الصحراء ثمّ محاولة عزل المغرب عن الفضاء المغاربي سياسيا بعد تنظيم اللقاء الثلاثي بين رؤساء كلّ من تونس والجزائر وليبيا وهي في الواقع دعوة سابقة كان اقترحها الرئيس السابق للبرلمان التونسي راشد الغنوشي. من جهتها أطلقت المملكة المغربية مجموعة من المبادرات خارج الإطار المغاربي وحوله، من ذلك تعبيرها عن رغبتها في الانضمام إلى "مجلس التعاون الخليجي"، ثمّ الطلب رسمياً سنة 2017م، العضوية في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، ثمّ إطلاق المبادرة "الاستراتيجية الأطلسية لدول الساحل"، في ديسمبر 2023م، بهدف تشكيل "تكتل إقليمي"، مهمّته "تعزيز وصول دول الساحل إلى المحيط الأطلسي".
- "الربيع العربي " وتوسع المنافسة والنفوذ الدولي على المنطقة:
أدّت أحداث "الربيع العربي" إلى تحولات سياسية واقتصادية في المنطقة من ذلك تزايد إهدار الفرص في قطاعات متعدّدة، بما في ذلك قطاع التجارة. وتحاول بعض الأطراف الدولية، أمام ضعف القدرات الاقتصادية والعسكرية والهشاشة النسبية لأوضاع المنطقة السياسية وعمق الخلافات بينها، التمدّد في المنطقة لتحقيق أهدافها الاقتصادية والاستراتيجية بحثا عن مواقع لها ومزاحمة الوجود الفرنسي التقليدي خاصّة وأنّ العلاقات بين بلدن المغرب العربي وفرنسا تعرف برودا وتراجعا على المستوى السياسي والتجاري والاقتصادي... وتعتبر روسيا واحدة من اللاعبين العالميين الرئيسيين الذين يحاولون تأكيد نفوذهم خاصّة في ليبيا حيث تمكّن الروس من السيطرة على حقول النفط الرئيسية. وقد تعزّزت علاقاتها بالجزائر كما تحاول إيطاليا استغلال التراجع النسبي لفرنسا في المنطقة لتعزيز مستوى علاقاتها مع الجزائر وليبيا (النفط والغاز) وتونس (مقاومة الهجرة السرية). فضلا عن تركيا التي تنافس على حصّتها من النفوذ خاصّة في ليبيا وتلعب الصين دورا هامّا كمستثمر عملاق ليس في شمال أفريقيا فحسب، بل في أفريقيا عموما أمّا حضور دول الخليج العربي في منطقة المغرب العربي فيبدو "محتشما نسبيا"، مقارنة بحضور الأطراف الأخرى، رغم قِدَم العلاقة واستنادها إلى روابط حضارية وثقافية وسياسية متينة، تجسّدت في تعاون واسع في المجال الثقافي والتربوي والاقتصادي. وإن تميّزت تلك العلاقات بين دول المنطقتين ببعض من التشنّج الحادّ أحيانا، خاصّة بعد سنة 2011م، غير أنّ ذلك سريعا ما تمّ تجاوزه و بدأت عملية المصالحة مع انعقاد القمّة العربية مطلع يناير 2021م، في المملكة العربية السعودية التي فتحت آفاق جديدة وأكدّت على مفاهيم جديدة في العلاقات العربية عبّر عنها الأمير فيصل بن فرحان وزير الخارجية السعودي بقوله أن: "العمل السياسي إذا لم يخدم المصالح الاقتصادية والتنموية ويعزّز رفاه المواطنين فهو مضيعة للموارد وعلى خلفية تلك الرؤية و صدق الرغبة وحتّى الحاجة إلى كلّ من دول مجلس التعاون الخليجي واتّحاد المغرب العربي وعلى أساس فكرة أو "نظرية رابح / رابح" بالإمكان بناء شراكة استراتيجية على جميع المستويات بين الطرفين... ففي الفضاء المغاربي تتوفّر العديد من الإمكانيات والمؤهّلات الجاذبة للاستثمار منها القوانين المرنة والمحفّزة للاستثمار الخارجي واليد العاملة المؤهّلة كانت ولا زالت محطّ ثقة لدى المستثمرين الاوروبيين والآسيويين ، بالإضافة إلى أهمّية الموقع الجغرافي للفضاء المغاربي الرابط بين قارّتي أوروبا و افريقيا هذه القارة التي تحوّلت إلى منطقة تنافس و جذب لأغلب الدول الكبرى والصاعدة سواء لأسباب أمنية وعسكرية أو اقتصادية واستثمارية باعتبار ما تتمتّع به من ثروات طبيعية متنوّعة ونموّ سكّاني الأسرع عالميا ولأهمّية ما تتوفر في الكثير من أجزائها من مضايق رئيسة في طرق الملاحة الدولية ما يمكن أن يجعلها بوّابة لتعزيز انفتاح دول الخليج العربي سياسيا واقتصاديا على هذه القارّة الواعدة من نافذة منطقة المغرب العربي والأهم من كلّ ذلك ما يتوفّر في المنطقة المغاربية من فرص الاستثمار في مشاريع في مجال البنية التحتية كتمديد خطوط السكك الحديدية، وتطوير المطارات وتهيئة الموانئ والسدود الكهرومائية والطاقات المتجدّدة وتمويل مشاريع في مجال الاتّصالات والاقتصاد الرقمي وصناعة الأدوية والتعليم وتطوير مشاريع مشتركة في مجال الأمن الغذائي والاستثمار في قطاعات الماء...ولا شكّ أنّ ذلك سيساهم في حلّ الكثير من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تعاني منها البلدان المغاربية كالتقليص من حجم البطالة والفقر ومنسوب الهجرة غير النظامية و الإرهاب والمساعدة على إقرار السلم الاجتماعي و احتواء التوترات السياسية الحادة بين بعض دول المنطقة وخاصّة الخلاف بين المغرب والجزائر و المعضلة الليبية...