يُعد موضوع بناء الدولة في الدول العربية بشكل عام ودول المغرب العربي على وجه الخصوص موضوعاً هاما وحيويا على الصعيدين الأكاديمي والعملي، كون العديد منها لا زال يمر بمرحلة مخاض يبحث فيها عن نموذج الدولة المناسب الذي يحقق الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي والتناغم الاجتماعي.
في ليبيا – البوابة الشرقية للمغرب العربي-مرت عملية بناء الدولة بثلاث مراحل، أصبحت اثنتان منها في ذمة التاريخ وهما المرحلة الملكية التي استمرت 18 عاما والمرحلة الثورية والتي استمرت 42 عاما، أما المرحلة الثالثة والتي بدأت على إثر الحراك الشعبي في عام 2011م، فما زال مركبها تتلاطمه الأمواج العاتية ولا يلوح في الأفق أي ميناء قريب للخروج من العاصفة بالرغم مرور ما يقرب من الأربعة عشر عاما.
بالرغم من اسقاط نظام الحكم في عام 2011م، بعد تدخل حلف الناتو، إلا أن عملية إعادة بناء الدولة ووجهت بعدة عراقيل على الصعد كافة الداخلية منها والإقليمية والدولية، ودخلت في منزلقات قد تؤدي إلى ضياع الدولة بدلا من إعادة بناؤها. تمثلت هذه العراقيل في فتح الباب على مصراعيه للتدخل الخارجي وانتهاك سيادة الدولة والفشل في نزع سلاح المليشيات وتعزيز المصالحة الوطنية وصياغة دستور جديد واجراء انتخابات واستعادة الأمن ورتق ما أصاب النسيج الاجتماعي من فتوق قد يصعب رتقها. انقسم الليبيون إلى عدميين اكتفوا بالإطاحة بنظام القذافي وقتله ونستالجيين يعصف بهم الحنين إلى فترة الملكية وثوريين مصرين على إعادة النظام الجماهيري، وفي كل ذلك يلعب الدعم الأجنبي دوره بشكل واضح وفاضح.
أولاً: ارهاصات تكوَن الدولة في ليبيا
تأثرت عملية بناء الدولة في ليبيا بتاريخ وجغرافية البلاد، على الرغم من أن التفسير التاريخي كان مختلفًا من فترة إلى أخرى ومن نظام إلى آخر. كانت السمة المميزة لتاريخ ليبيا هي التجربة الطويلة القاسية مع الاستعمار والحروب. أثرت هذه التجربة الصعبة على عملية بناء الدولة بطريقتين. أولاً، كفاح البلاد ضد المحتلين الأجانب، لعب دورًا حيويًا في خلق شعورا بالوطنية الليبية والقومية العربية. ثانيًا، خلقت عند صناع القرار الليبيين، خاصة خلال الفترة الثورية، رؤية متشككة إلى حد كبير في نوايا القوى الاستعمارية الغربية. مرت عملية بناء الدولة في ليبيا الحديثة بعدة محطات هامة كان لكل منها تأثيرها الخاص.
ا: حكم الاسرة القرمانلية
يمكن تلمس بذور الوعي الوطني بالهوية الليبية في ظهور الدولة القرمانلية، التي حكمت كامل إقليم طرابلس وأجزاء من برقة وفزان بشكل مستقل لمدة مائة وخمسة وعشرين عامًا، ووضعت الشكل الأساسي للدولة الليبية الجديدة في القرن العشرين. على الرغم من أنها وقعت قبل ما يقرب من الثلاثمائة سنة، إلا أن الشعب الليبي وقادته لا يزالون يتذكرون المواجهة الأولى مع الولايات المتحدة في عام 1805م، على أنها انتصار كبير على قوة غربية مسيحية ترغب في السيطرة على ليبيا حتى قبل ظهور القذافي أو اكتشاف النفط.
تعززت أسس الهوية والدولة الليبية في القرن العشرين بعد انفصال الحكم القرمانلي في ليبيا عن الإدارة الامبراطورية العثمانية. بين جميع حكام القرمانلي، يُعد يوسف باشا القرمانلي الأكثر تذكرًا في تاريخ ليبيا، وذلك بسبب ما اعتبره الليبيون حتى اليوم انتصارهم الكبير على الولايات المتحدة. خلال حكم يوسف (1795-1832م)، حدثت أول مواجهة عسكرية بين ليبيا والولايات المتحدة الامريكية. عندما رفع يوسف باسا الرسوم السنوية المفروضة على الامريكيين نظير مرورهم الآمن عبر المتوسط، أرسل الرئيس توماس جيفرسون أسطولًا أمريكيًا كبيرًا لمعاقبة ليبيا. إلا أن مصير تلك الحملة كان الفشل، حيث تم القبض على الفرقاطة الأمريكية فيلادلفيا خارج ميناء طرابلس واحتُجز أفراد طاقمها.
في عام 1835م، انتزع الباب العالي من الولاة القرمانليين الحكم الذاتي لليبيا ووضعها تحت حكمه المباشر، لتبدأ الفترة الثانية من الحكم التركي ولتدفن معها أول محاولة لبناء دولة ليبية. في هذه الفترة، بدأ رجال القبائل العربية يطالبون بإصلاحات ضريبية والحصول على الحكم الذاتي والمشاركة المتساوية والاعتراف باللغة العربية كلغة رسمية للإدارة. كان هذا الشعور المبكر بالقومية العربية مخففًا بالدين الذي كان يشترك فيه الحكام الترك مع المواطنين العرب. على الرغم من أن الليبيين كانوا ينتقدون حكم الأتراك، إلا أن روابط الدين كانت قوية بما يكفي لجعلهم لا يعصون الخليفة، حاكم المسلمين. ولكن في وقت لاحق في عام 1908م، عندما بدأ الأتراك الشباب ببرامجهم للتريك والمركزية، بدأت مشاعر القومية العربية تتزايد، على الرغم من عدم كفاية ذلك لجعل الليبيين يفضلون الاحتلال الأجنبي غير المسلم على حكم العثمانيين المسلمين. هذا العامل يبدو أنه تم تجاهله من قبل الإيطاليين عندما غزوا ليبيا حيث اعتقدوا أنهم سيكونون مرحب بهم كمحررين، ولكنهم كانوا مخطئين.
ب: الحكومة السنوسية
مثلت الإمارة السنوسية في برقة الارهاصات الأولى لبناء الدولة الوطنية وتجسيدا أخرا للشعور بالوطنية الليبية. على الرغم من أنها بدأت كتنظيم ديني، إلا أنها أصبحت في نهاية المطاف حركة وطنية. خلقت الحركة شعورًا متزايداً بالوحدة وقدمت التوجيه والقيادة خلال فترات السلام والحرب. في البداية، كان الدور الذي لعبته السنوسية مبنيًا على التزام ديني، ولكن في النهاية، تجلى في الأبعاد السياسية والعسكرية والوطنية، وأصبح أكثر وضوحا خلال الغزو الإيطالي عندما كان السنوسيون مثالاً يحتذى في حركة المقاومة. نتيجة لذلك، أصبحت الطريقة السنوسية محور الوطنية الليبية. لم تقدم الحركة فقط للبلاد القائد الأول ولكنها استمرت أيضًا في أن تكون أساس شرعيته وشرعية النظام الملكي برمته. وهكذا توفر لقيام الدولة الليبية الجانب القومي المتمثل في العصبية العربية القبلية والجانب الديني المتمثل في الحركة السنوسية.
على الرغم من أنها لم تكن حكومة بالمعنى المقبول عمومًا للكلمة، إلا أن الحكومة السنوسية تحت قيادة الشيخ أحمد الشريف كانت تعبيرًا واضحًا عن وطنية مبنية على الإسلام. منذ البداية، كان الشيخ أحمد مشاركًا في النضال ضد الإيطاليين. بعد وقت قصير من اندلاع الحرب ضد الايطاليين، استخدم منصبه كرئيس لطائفة السنوسيين للدعوة للجهاد. في صيف عام 1912م، نقل الشيخ أحمد مقره الرئيس إلى الجغبوب شمالًا، وشكل إطارًا للحكومة، أو على الأقل دولة شبه ذاتية. تم وضع الطوابع على الوثائق بعبارة "الحكومة السنوسية". كان شعارها الجنة تحت ظلال السيوف، ونصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين، يا أيها الذين أمنوا كونوا أنصار الله. هذا التطور يعتبر بداية تحول الحركة السنوسية من طائفة دينية إلى كيان سياسي يسعى لإقامة دولة ذاتية. ولكي يكون في قلب المقاومة المسلحة، انتقل الشيخ أحمد من الجغبوب إلى الجبل الأخضر.
ج: الجمهورية الطرابلسية
يمثل قيام الجمهورية الطرابلسية عام 1918م، محاولة أخري على درب سعي الليبيين لبناء دولتهم الوطنية. تبرز أهمية الجمهورية الطرابلسية من حقيقة انها، وعلى عكس الامارة السنوسية، زرعت بذور النزعات الجمهورية في الجزء الغربي من ليبيا. إذا كان يمكن أن المملكة السنوسية تعود بجذورها إلى الامارة السنوسية، فإن ليبيا الثورية بعد عام 1969م، لها صلات اقوى بالجمهورية من حيث النزعات والالهام. كانت الجمهورية الطرابلسية اول جمهورية في الوطن العربي. على الرغم من انها استمرت لبضع سنوات فقط وكانت تجمعا للشيوخ والاعيان، إلا أنها مثلت توجهات قوية نحو تقرير المصير والاستقلال.
اتفق قادة الجمهورية الأربعة، أحمد المريض وعبد النبي بلخير وسليمان الباروني ورمضان السويحلي، على مواصلة المقاومة حتى تعترف إيطاليا باستقلال ليبيا. بالنسبة لإيطاليا، اعتبرت مجلس الأربعة متمردين ورفضت الاعتراف بإعلانهم للاستقلال. ولكن بعد ذلك بوقت قصير، وفقًا لسياسة المصالحة الخاصة بها ونتيجة لقرار قادة المنطقة الغربية، وافقت إيطاليا على الاعتراف بالجمهورية وصدر مرسوم في 1 يونيو 1919م، يمنح طرابلس الكبرى الحق في تأسيس برلمان.
ثانياً: طبيعة الدولة الليبية في عهد ادريس السنوسي
كانت الدولة في العهد الملكي بناءً بريطانيا إلى حد كبير، وفي عهد القذافي بناءً شخصيا خالصا. كانت الدولة الليبية الجديدة، بشكل عام، من صنع الغرب وخاصة بريطانيا. على الرغم من ترحيب الشعب الليبي بالاستقلال، إلا أن العديد منهم، خاصة الجيل الشاب الوطني، كانوا خائبي الآمال ومحبطين، وكان لديهم تحفظات حول فرض الفيدرالية وفرض إدريس كملك من قبل بريطانيا والقوى الغربية الأخرى.
نظرًا لمخاوفها على مصالحها الاستراتيجية نتيجة تصاعد حمى الحرب الباردة، كانت سياسة بريطانيا تجاه ليبيا تعتمد على تأمين تلك المصالح في برقة ومنع الاتحاد السوفيتي من الحصول على قاعدة في طرابلس. عندما فشلت بريطانيا في تحقيق هذه الأهداف داخل الأمم المتحدة، حاولت تفادي المنتدى الدولي من خلال وضع خطة بيفن-سفورزا. ومع ذلك، يبدو أن المعارضة الساحقة للخطة من قبل الشعب الليبي قد أقنعت بريطانيا بإعادة النظر في سياستها تجاه ليبيا. كانت بريطانيا تخشى على مصالحها ليس فقط في برقة ولكن في جميع أنحاء العالم العربي. لذلك، قامت بتغيير تكتيكها وبدأت، جنبًا إلى جنب مع القوى الغربية الأخرى، بالدعوة إلى استقلال ليبيا على الفور، ليس من أجل استقلال ليبيا نفسها ولكن بدلاً من ذلك من أجل حماية مصالحها الإقليمية الخاصة. توقعًا لقرار الأمم المتحدة لصالح استقلال ليبيا، اهتمت بريطانيا بشكل كبير بتشكيل النتيجة. منحت برقة حكمًا ذاتيًا محدودًا ونصت على أنه إذا كانت هناك دولة ليبية مستقلة، فإنها ستكون فيدرالية تحت تاج السنوسي. كانت بريطانيا تخشى أن تكون الدولة الواحدة قابلة للهيمنة من قبل الطرابلسيين، الذين لا يمكن الاعتماد على ولائهم لبريطانيا. من ناحية أخرى، سيجعل الاتحاد من السهل على بريطانيا تقسيم البلاد في حال واجهت أي تصادم مع الطرابلسيين. في هذه السياسة، اعتمدت بريطانيا على حسن نية إدريس، الذي لم يرَ مصالح بريطانيا متناقضة مع مصالح ليبيا. في النهاية، حصلت بريطانيا على ما تريد: دولة شبه مستقلة تعتمد في بقائها بشكل كبير على الغرب وبريطانيا على وجه الخصوص.
بحلول عام 1969م، كانت جميع الظروف قائمة للتغيير: نظام ملكي على شفا الانهيار وضباط جيش شبان لديهم الحماس والقدرة والأفكار لإحداث التغيير. باختصار، سقطت الملكية في النهاية ضحية لعدم قدرتها على الاستجابة للمطالب السياسية والاقتصادية والاجتماعية للجيل الجديد الأكثر تحرراً من الأجيال الأكبر سناً والأكثر تقليدية.
ثالثاً: طبيعة الدولة الليبية في عهد معمر القذافي
كما سبقت الإشارة، إذا كانت الدولة في عهد المملكة شبه صناعة بريطانية خالصة فإنها في عهد القذافي صناعة شخصية خالصة. لا شك أن الثورة الليبية عام 1969م، هي واحدة من أكثر الثورات التي شهدها العالم تطرفاً من حيث قلب الهياكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية للنظام القديم. من حيث عملية اتخاذ القرار، كانت الثورة سريعة وناجحة في تفكيك النظام السياسي القائم وإنشاء نظام جديد؛ نظام الديمقراطية الشعبية المباشرة الذي بدأ مع إطلاق الثورة الشعبية في عام 1973م، وأخذ شكله النهائي مع إعلان "سلطة الشعب" في عام 1977م. كان نظام غير مسبوق في ليبيا والعالم بأسره يقوم على أفكار معمر القذافي، وقد أحدث تغيرا سياسياَ واجتماعيًا واقتصاديًا في ليبيا. هذا التغيير الجذري كان له آثار هائلة على شكل الدولة وتوجهاتها.
على أية حال، لم يحدث التغيير إلا بعد ترسيخ الثورة وتعزيز قيادة القذافي. خلقت الإنجازات الوطنية المبكرة في مجال البنية التحتية وتحسن مستوى المعيشة، رصيدا سخيًا من رأس المال السياسي، الذي جلب الشرعية والترسيخ للثورة وقادتها. في الواقع، مع إجلاء قواعد الجيش البريطاني والأمريكي، وطرد المستوطنين الإيطاليين، وتأميم شركات النفط، وتلييب القطاع المصرفي والعديد من الإنجازات الأخرى، كان بإمكان القذافي وزملاؤه الاستراحة وحكم ليبيا بشكل دائم بالطريقة التقليدية. لكن، منذ تأسيس حركة الضباط الوحدويون الأحرار في عام 1959م، أدعى هؤلاء الضباط أن الهدف ليس إطلاق انقلاب لتغيير الحكومة بل بدء ثورة شعبية يمكن أن تغير الهيكل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لليبيا.
ومع ذلك، لم يكن الحماس وحده كافيًا. سرعان ما أصبح واضحًا أن النظام الجديد يفتقر إلى التنظيم السياسي القادر على تعبئة السكان للتغلب على جميع العقبات التي قد تواجه تحولًا ثوريًا. في البداية، حاول النظام الجديد تكرار تجربة عبد الناصر السياسية من خلال اعتماد الاتحاد الاشتراكي العربي، لكن القذافي كان لديه أفكاره الخاصة. بدأ منذ عام 1973م، بما سماه الثورة الشعبية، وحث الناس في كل مكان على تشكيل مؤتمراتهم ولجانهم الشعبية ليتم رسم السياسات من الأسفل إلى الأعلى على مستوى المؤتمرات الشعبية الأساسية حتى أعلى المستويات الوطنية في مؤتمر الشعب العام.
على كل حال، وعلى الرغم من كل هذه التغييرات التي تمنح، على الأقل نظريا، الشعب الليبي دوراً في عملية اتخاذ القرار، ظل القذافي على قمة النظام السياسي الليبي كصانع رئيس للقرار على جميع المستويات، خاصة في الشؤون الخارجية. فرغم ادعاءاته بأنه يرغب حقاً في أن يأخذ الشعب السلطة ويحكم نفسه بنفسه من خلال نظام المؤتمرات الشعبية، إلا أن التجربة العملية أثبتت أنه عندما تخرج النتيجة عما يعتبره هو إرادة الشعب فإنه يتدخل لفرض رأيه. وهكذا حاول النظام الجديد بناء دولة على أسس تختلف عن تلك التي حاول النظام الملكي أن يبني عليها.
رابعاً: تحديات إعادة بناء الدولة بعد حراك 2011
كان اسقاط النظام في عام 2011م، في واقع الحال، اسقاط لأركان الدولة في ليبيا بسبب حالة الفراغ التي تركها غياب هرم السلطة، فالدولة في ليبيا كانت متمركزة حول شخص القذافي ونظريته في السياسة والاقتصاد والاجتماع. بمجرد أن سقط النظام بمساعدة حلف الناتو اتضح أنه لم يكن لدى السلطات الجديدة مشروع سياسي واضح لمستقبل البلد. لم يكن يعوزها غياب الرؤية فقط بل انها لم تتمكن من فرض سيطرتها على كامل الجغرافيا الليبية ولم تعد المالك الوحيد لزمام القوة، الامر الذي أدى إلى بروز ليبيا كدولة ضعيفة وهشة. وبذلك خرجت ليبيا من مركزية القوة إلى لا مركزية الضعف وتحولت إلى دولة فاشلة. علق جزء من الليبيين آمالا كبيرة على الحراك الشعبي في17 فبراير 2011م، لينقلهم إلى مرحلة جديدة من تاريخ ليبيا المعاصرة يتم فيه التمتع بخيرات البلاد الهائلة. إلا أن الملاحظ وبعد ما يقرب من الأربعة عشر عاما أن الأمور قد سلكت مسارا مغايرا لما كان منتظرا منها، إذ عرفت ليبيا نسقا متصاعدا للعنف، وفشل الحلول السياسية ووصول البلاد إلى حافة التقسيم، ناهيك عن التدخل الخارجي الفاضح.
يُعد اخفاق الدولة في ممارسة حق احتكار الاستخدام المشروع للقوة تحديا كبيرا يواجه إعادة بناء الدولة في ليبيا نتيجة للغياب الواضح والخطير لمظاهر الدولة ومؤسساتها الأمنية والعسكرية المبنية على أسس وطنية، حيث انتشرت ظاهرة الانتشار الكثيف للسلاح ووجود الاف من المسلحين يشكلون ميليشيات تطالب بالمشاركة بل والسيطرة على القرار السياسي وترفض التخلي عن سلاحها حتى تلبى مطالبها. ما يزيد من خطورة الوضع حالة تقاطع هذه الميليشيات مع القوى السياسية في ليبيا، فتتشابك السياسة مع القوة العسكرية لتنتج وضعا فريدا ومقلقا. فلكل طرف سياسي ميليشياته. تكون بعض هذه المجموعات المسلحة ككتائب ثورية اثناء الحراك السياسي في عام 2011م، بينما تشكلت أخرى في مراحل تالية وربما بطريقة لا واعية. ليس هذا فقط، بل هيأت الفوضى التي عمت البلاد الظروف المواتية لنمو جماعات إرهابية مسلحة مثل داعش وأنصار الشريعة وغيرهما. وجد الكثير من هذه المجموعات المسلحة المساحات للتحرك خارج نطاق القانون وممارسة المخالفات الجنائية بحق المواطنين ومؤسسات الدولة كانتشار عمليات الخطف مقابل المال والاتجار في بالبشر وصناعة وترويج الخمور والمخدرات. وعلى الرغم من صدور قرار بحلها في عام 2012م، إلا أن السلطة كثيرا ما كانت تلجأ إلى هذه المليشيات لحماية السفارات او فض المنازعات القبلية أو حماية المؤسسات المهمة.
بعد اتفاق الصخيرات عام 2015م، انقسمت السلطة وتم تشكيل ثلاث هيئات لإرضاء كل الأطراف تمثلت في المجلس الرئاسي والحكومة والمجلس الأعلى للدولة، لينتهي الواقع السياسي في ليبيا إلى وجود حكومتين واحدة في الشرق والأخرى في الغرب، أي انقسام السلطة التنفيذية والتشريعية، الامر الذي فتح الباب واسعا على مصراعيه للفساد المالي والتدخل الخارجي. لم ينته التدخل الخارجي عند حد تدخل حلف الناتو العسكري لأسقاط النظام، بل مستمر إلى اليوم وأصبح لكل قوة دولية أو إقليمية فصيلها الذي تدعمه خدمة لمصالحها الخاصة وليس مصلحة الدولة الليبية. يمثل اليوم التنافس الأمريكي – الروسي تهديدا وجوديا لليبيا وذلك نظرا لتعارض مصالح القوتين بشكل جذري، الأمر الذي قد يؤدي إلى انقسام الدولة الليبية إلى شرق وغرب.
التحدي الآخر هو ظهور الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية كالهوية الأمازيغية أو التباوية أو الطوارقية، وفشل الدولة في وضع حد لهذه الظاهرة بخلق هوية جامعة لكل الليبيين تكون هي الدينامية الفعالة الرئيسة. بعد انهيار الدولة في 2011م، برزت القبيلة لتملأ الفراغ وأصبحت الحكومة مجرد واجهة سياسية وحتى عسكرية للقبيلة، لا بل انها ساهمت في تعزيزها باعتماد أسلوب المحاصصة في تولي المناصب المهمة. ولجأ المواطن الليبي إلى القبيلة لتوفير الحماية بعد ان كانت القبلية قد بدأت في التآكل وأصبحت مجرد مضلة اجتماعية لا دور مؤثر لها فب المجال السياسي.
لعل من اهم التحديات السياسية التي تواجه إعادة بناء للدولة في ليبيا هو تشبث مناطق وقبائل محددة بثقافة المنتصر المحرر في مقابل المهزوم المعرقل للاستئثار بالسلطة والثروة والسلاح، حيث تنظر بعض تلك القبائل والمناطق إلى نفسها بأنها هي المنتصرة والمحررة للَيبيين وأن غيرها من القبائل والمناطق بانها المهزومة والمعرقلة، ومن ثم فهي صاحبة الحق في السيطرة على المفاصل الرئيسة في الدولة. ومن ثم، ونتيجة لعدم النضج السياسي تحول الاختلاف إلى خلاف وصل إلى حد الاقتتال والتدمير الشامل لكل مقدرات الدولة وتحول التنوع إلى إقصاء دون بذل جهود حقيقية للمصالحة وجبر الضرر وتطبيق عدالة انتقالية فعالة.