شهدت منطقة حوض شرق البحر المتوسط وجنوبه اكتشافات واعدة من النفط والغاز في السنوات الأخيرة، ما يكسبها أهمية متزايدة تجعلها واحدة من أهم المناطق على خارطة الطاقة العالمية في المستقبل القريب. فالقوى الدولية الفاعلة فضلاً عن قوى إقليمية صاعدة وطامحة، كلها تتبارى في هذه المنطقة، من أجل السيطرة على موارد الطاقة وحماية إمداداتها، نظراً لما يحتله المورد النفطي والغازي من أهمية متزايدة ودخوله في معظم العملية الصناعية والإنتاجية. لا شك أن هذه الثروات التي يكتنزها الحوض الشرقي للبحر المتوسط ستغير الواقع الجيوسياسي والجيو اقتصادي لدول المنطقة، وستدفع بها إلى آفاق رحبة من الازدهار والسلام إن أحسنت هذه الدول إدارتها مع ما يستتبعه من آفاق للتعاون والشراكة، ما لم تتجاوز دول المنطقة خلافاتها الحدودية التي يمكن أن تصل إلى حد الصدام العسكري، في ظل العوائق الكثيرة الماثلة أمام ترسيم الحدود البحرية فضلاً عن الاصطفافان الإقليمية.
إن حجم الخلافات وحدّتها التنافسية بين الدول، فضلاً عن زحمة الفاعلين الدوليين والإقليميين حول موارد الطاقة في شرق المتوسط، جعل منها مسرحاً لصراع مصالح القوى الكبرى انعكس بشكل تحالفات إقليمية ودولية متعددة ومتشعبة. وترى كل دولة أحقيتها في استغلال الموارد الطبيعية الموجودة في هذه المنطقة، وهو ما أسهم في خلط الأوراق بين دولها وتحولها إلى سبب في زيادة التوترات السياسية والأمنية. وهذا ما دفع تركيا إلى توقيع مذكرة التفاهم مع ليبيا، بشأن السيادة على المناطق البحرية في البحر المتوسط، لإفشال مخططات إقليمية ودولية لعزل تركيا وتقليص تأثيرها في ملفات المنطقة، بحسب تصريحات المسؤولين الأتراك.
وهذا ما يدفعنا لسبر تفاصيل المتغيرات المختلفة لذلك التحرك من واقع المكانة التي تتبؤاها تركيا، فهي ليست بدولة هامشية، بكل معايير الجغرافيا والاقتصاد، وبسبب شعور قادتها بفائض القوة العسكرية لبلدهم، تناور تركيا في أكثر من صعيد إقليمي ودولي، لوقف زحف المخاطر الخارجية عن تخوم عمقها الاستراتيجي، وتجد نفسها في مواجهة شاملة على طول المنطقة وعرضها وفي حوض البحر المتوسط بعيداً عن رؤية الآخر الغربي، وتداعيات أي تغيير عميق على مصالح الإقليم والعالم الحيوية وتحديداً ليبيا. فهل يأتي هذا التحرك كضرورة لمجابهة استحقاقات الداخل وتهديدات الخارج؟ أم أنها لا تعدو كونها مناورة لتحسين أوراق تركيا التفاوضية مع دول الاتحاد الأوروبي في السيادة على المجال البحري؟
وفي مسعى للإجابة عن هذه التساؤلات، يمكن استعراض ذلك من خلال المحاور التالية:
أولاً: الأسباب التي أدت إلى توقيع مذكرة التفاهم بين تركيا وليبيا
تعير تركيا في سياستها الخارجية أهمية كبرى لحسابات مصالحها المختلفة، ويحتل الاقتصاد أولوية في مهمة السياسيين، وتقاس على أساسه نجاحاتهم في تدبير الشأن العام ورسم خطط سيره، كما أن تضارب المصالح وشحة الموارد في مسرح التفاعل الخارجي التنافسية، قد تدفع بكثير من صناع القرار الدخول في مغامرات سياسية وعسكرية مقابل الحفاظ على بعض المزايا الاقتصادية، خصوصاً إذا ما كانت مصالح حيوية للدولة.
ويمكن حصر بعض أسباب توقيع تركيا الاتفاقية البحرية مع ليبيا وأثرها في سياستها في حوض شرق المتوسط في الآتي:
أصبحت منطقة شرق البحر المتوسط مسرحاً نشطاً تشهد اهتماماً متزايداً وتنافساً مشتداً بين دوله للحصول على موطئ قدم فيها. هذه المنطقة تعد نقطة التقاء وصراع بين تركيا واليونان وقبرص وإسرائيل ومصر، ولأهم شركات الطاقة العالمية مثل بريتش بتروليوم وإيني الإيطالية وتوتال الفرنسية وإكسون الأمريكية وكذلك للمنظمات الدولية المعنية بالطاقة، إضافة إلى الدول المستهلكة للطاقة، مثل الاتحاد الأوروبي. لذا دخلت أطراف جديدة على خط المنافسة، وهو ما يعني إن بقاء تركيا بعيدة عن هذا الحراك السياسي والاقتصادي وهي تملك أطول ساحل في شرق المتوسط، من شأنه أن يلقي بتداعياته على مكانتها ونفوذها واقتصادها.
وفي هذا السياق، أعلنت دائرة المسح الجيولوجي الأمريكية أن الاحتياط المتوقع من الغاز في شرق البحر المتوسط يقارب الـــ 122 تريليون متر مكعب، أما فيما يخص النفط، فقد أشار التقرير نفسه أن المنطقة تختزن على أكثر من 107 مليار برميل من النفط، وهو ما دفع تركيا للتحرك لتأمين المزيد من النفوذ في التدافع على النفط والغاز في هذه المنطقة. فتركيا ليست من البلدان المنتجة للطاقة، ولذا، فإن جزء من الاستراتيجية القومية لتركيا يتجه نحو العمل على نقل ومرور الطاقة عبر أراضيها لما تتمتع به من خصوصيات جغرافية. ومن ثم، فإن سعي تركيا للحصول على الطاقة وتأمين مرور مساراتها إلى الأسواق العالمية عبر أراضيها هدف طبيعي من أهداف المصالح القومية التركية. فتركيا بأمّس الحاجة إلى موارد الطاقة الموجودة قبالة سواحلها شرق المتوسط لتحقيق الاكتفاء الذاتي، وبما يخفف من اعتمادها على روسيا وإيران في مجال الطاقة، ويخفف من الضغط على اقتصادها، حيث تقدر وارداتها من الطاقة بحوالي 45 مليار دولار.
إلى جانب اعتبارات أمنية وعسكرية، فقد آثار ظهور تحالفات إقليمية جديدة في شرق المتوسط المخاوف الأمنية التركية مثل الشراكة بين إسرائيل واليونان وقبرص ومصر. وهو ما تسعى إليه تركيا ضمن استراتيجيتها الشاملة لعرقلة خطط دول منتدى غاز شرق المتوسط، الذي تأسس في 14 يناير 2019م، وضم كل من اليونان وإيطاليا وإسرائيل وقبرص اليونانية ومصر والأردن وفلسطين. تبدو السياسة التركية أشبه برد فعل على توجه دول منتدى شرق المتوسط، لذلك، فإن مذكرة التفاهم بشأن السيادة على المناطق البحرية التي وقعتها مع ليبيا تتعدى المكاسب الاقتصادية وتؤثر بشكل مباشر في تغيير قواعد اللعب شرق المتوسط، وستعزز مكانة تركيا للحيلولة دون تجاهلها أو عزلها، أو تبني حلول لها تأثير مباشر في مصالحها الاقتصادية وأمنها القومي. فتركيا وجهت بموجبها رسالة مضمونها أن وصول خطوط أنابيب الغاز إلى الأسواق الأوروبية سيكون من الصعوبة بمكان في حال لم يتم ضم تركيا إلى المعادلة، وسيحول ذلك دون تمكن دول المنتدى على الإقدام على أي خطوة في هذه المنطقة دون الحصول على إذن مسبق من تركيا. وستواصل الأخيرة السعي لتحقيق أهدافها، بأن تكون جسراً لعبور الطاقة عبر أراضيها من آسيا إلى أوروبا، وهو ما سيعزز المكانة الجيوسياسية لتركيا. بهذا الموقف تحاول التذكير بأنها دولة إقليمية مركزية تقرر ما تقوم به ولا تخضع لأجندة الآخرين. والأهم من كل ذلك التوظيف الأمثل لمواردها الاقتصادية والبشرية، ولموقعها الجيو استراتيجي، وإلى قدراتها كقوة محورية في الشرق الأوسط. وتوظف تركيا كل هذه العناصر إضافة إلى أخرى، لأجل تعزيز مكانتها خصوصاً في الشرق الأوسط وجنوب المتوسط.
لا يمكن إغفال أن ما تمتلكه ليبيا من مخزون احتياطي مهم من النفط والغاز، بامتيازات مغرية تثير اهتمام كثير من الفواعل الدولية والإقليمية بما فيها الفاعل التركي، الذي يسعى إلى ضمان حصة له من هذه الاحتياطيات. فليبيا من أهم البلدان المنتجة للنفط، وتقدر الاحتياطات المؤكدة من النفط الخام فيها بنحو 46،4 مليار برميل، إضافة إلى احتياطي غاز يقدر بــ 55 تريليون قدم مكعب. وقد بدا واضحاً أن الهدف من مذكرة التفاهم التي وقعت بين الحكومة التركية وحكومة الوفاق الوطني برئاسة فائز السراج، في 27 نوفمبر 2019م، تتجاوز الأوضاع في ليبيا إلى مسألة التواجد في شرق المتوسط. لتكون جزءاً من استراتيجية رفع مكانة ونفوذ تركيا، أن تكون أكثر حضوراً وأكثر فاعلية، خصوصاً بعد الاكتشافات الهائلة من النفط والغاز في المنطقة البحرية في شرق البحر المتوسط. وبما أن التدخل التركي في ليبيا كان يخفي الاهتمام الاقتصادي في سياسته العلنية لعمليته العسكرية، لكن الغرف المغلقة كانت كفيلة بفهم أبعاد التدخل الحقيقية، حيث كانت وعود التدخل العسكري التركي مقابل ترجيح كفة حكومة الوفاق الوطني الليبية في صراعها مع الجيش الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، تسيل لعاب الجانب التركي.
وقد وجدت تركيا في الاتفاق البحري مع حكومة الوفاق الوطني الليبية فرصة سانحة لتحقيق مصالحها وزيادة رصيد أوراق تركيا القوية في النزاع على السيادة والموارد في شرق البحر المتوسط، كما أنه يقوي موقفها في أي مفاوضات مستقبلية مع اليونان حول الجزز المتنازع عليها. ومن الممكن أن تكون تركيا عرضة لعقوبات الاتحاد الأوروبي بسبب الدفع بهذا الاتجاه من طرف قبرص واليونان والدول الأوروبية ذات الوزن الثقيل التي تمتلك شركات الطاقة مثل فرنسا وإيطاليا، نظراً للاهتمام الكبير الذي يبديه الأخير بمستقبل ليبيا. لكن التعقيد الأبرز ربما حدوث تحول دراماتيكي سلبي في موقف إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق "دونالد ترامب".
تعد تركيا من أكبر مستهلكي الغاز، وتعتمد بصورة شبه كلية على الغاز الروسي، إذ تستورد ما نسبته 98 في المئة. وتسعى لتلبية احتياجاتها من النفط والغاز وتقليص اعتمادها على الغاز الروسي والإيراني، وهي ترى في الثروة الغازية الواعدة الموجودة في الحوض الشرقي للبحر المتوسط، ملاذاً يعوضها ويغنيها عن الاعتماد على الخارج، لذلك سارعت إلى التنقيب عن الغاز والنفط في المنطقة بالاستناد إلى الاتفاقية البحرية مع ليبيا. لذلك فإن اعتماد تركيا على إنتاجها الخاص من شرق المتوسط، يجعلها حازمة في سياساتها البحرية الجديدة. خاصة بعد الاكتشاف الأخير في البحر الأسود، الذي بدأ الإنتاج منه في عام 2023م، بما يعني تجاوز العجز في الميزان التجاري، على تسريع عمليات الاستكشاف في المتوسط. وهو ما من شأنه أن يجعل من تركيا لاعباً أساسياً في سوق الطاقة العالمية، بحسب وزيري الطاقة والخارجية التركيين.
تعتبر تركيا أن التحرك في شرق المتوسط يستلزم إثبات حقوقها للتعامل مع أي عقوبات محتملة من الاتحاد الأوروبي أو من الولايات المتحدة، لا سيّما بعد أن هدد الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات على تركيا إن لم تتوقف عن أنشطتها بالقرب من المياه الإقليمية لقبرص. ولكي تتجاوز العقوبات الأمريكية حول أنشطتها في شرق المتوسط، سعت تركيا إلى توقيع اتفاقيتين بحريتين مع جمهورية شمال قبرص وليبيا لتعزيز حججها القانونية في مواجهة تلك العقوبات، وفي محاولة للاحتفاظ بهيبتها بوصفها قوة إقليمية لا تتحرك إلا وفق مبررات قانونية تراعي الالتزام بالاتفاقيات وقرارات الشرعية الدولية.
من هنا يمكن القول، أن بواعث واهتمامات تركيا تجاه التدخل العسكري السريع في ليبيا تنطلق من عدة اعتبارات، فليبيا تحتل أهمية كبيرة بكل المُعطيات في الإدراك الاستراتيجي لتركيا التي تبحث عن موطئ قدم لها في جنوب المتوسط، يمنح تركيا عمقاً استراتيجياً كبيراً ويثبت أقدامها على المستوى الجغرافي السياسي في المتوسط، ومن ثم المساهمة في لعب دور في رسم خريطة ليبيا بما يتوافق مع مصالحها وأهدافها.
وفي ظل وجود قوى دولية وإقليمية داعمة لطرفي الصراع الليبي، فإن تركيا تحاول إيجاد نوع من التوازن، وفي الوقت نفسه، تقليل خطر وجودها في نظر منافسيها من جهة، وحماية موقفها وموقف الحكومة الوفاق الوطني من جهة أخرى. يبدو جلياً أن تركيا استغلت الوضع الراهن في ليبيا أيما استغلال من أجل تحقيق مكاسب ومنافع اقتصادية في حوض شرق البحر المتوسط، فضلاً عن حاجة حكومة الوفاق الوطني للدعم التركي، يقدم فُرصة ثمينة في توزيع صادرات تركيا العسكرية المكدّسة، وحاجتها لتحريك عجلة اقتصادها، فقد عدّت ليبيا أحد المتنفسات لأزمة تركيا الاقتصادية الراهنة من زاوية عقد الصفقات العسكرية مع الجانب الليبي، وخاصة تزويده بالمدرعات وطائرات بدون طيار (بيرقدار) وأنظمة الصواريخ، وبالخبرات العسكرية والأمنية باعتباره حليف له أولوية ومكانة.
كما تسعى تركيا أيضاً للحصول على نصيب وافر من عقود الاستثمار والمشروعات لإعادة إعمار ليبيا لتعويض الأضرار والخسائر التي لحقتها بسبب الأزمة الليبية، ونقلاً عن مسؤولين أتراك، أن تدخل بلادهم في ليبيا، إنما يهدف لإنقاذ مليارات الدولارات من العقود التجارية التي تتعرض للخطر بسبب الصراع، ولدعم الاقتصاد التركي الذي يعاني من أزمات كثيرة. وسوف يتيح ذلك الفرصة لأردوغان لصرف أنظار الشعب التركي عن المشاكل الاقتصادية الداخلية.
ثانياً: تبعات الاتفاق على دول شرق البحر المتوسط
لم تخفِ عدة دول مطلة على حوض شرق البحر المتوسط امتعاضها من توقيع رئيس المجلس الرئاسي السابق لحكومة الوفاق الوطني الليبية فائز السراج اتفاقاً مع الحكومة التركية بشأن السيادة في المنطقة البحرية. برغم من وجود العديد من الأسس القانونية الحاكمة لقانون البحار كاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار عام 1982م، واتفاقية ترسيم الحديد بين الدول. إلا أن تلك الاتفاقيات لم تحل دون بروز خلافات حول استكشاف واستغلال حقوق الغاز الواقعة في منطقة شرق المتوسط.
خلط اكتشاف الغاز في حوض شرق المتوسط الأوراق في المنطقة، نظراً لما لهذا المورد المهم من تداعيات على كل المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية والقانونية، وكونه مادة استراتيجية تؤثر في موازين القوى الإقليمية والدولية التي تسعى إلى حجز حصتها من غاز المنطقة. ورأت القوى الخارجية الفاعلة في تلك الخطوة محاولة التفاف تركية لاحتكار الملف الليبي، بحسبان ليبيا دولة مهمّة في أجندة المصالح التركية ومصدراً قريباً ومهماً للطاقة.
- الخلاف التركي مع قبرص اليونانية
رسمت قبرص حدودها البحرية بما في ذلك منطقتها اقتصادية الخالصة مع كل من مصر في فبراير 2003م، ومع إسرائيل في أواخر ديسمبر 2010م، واتفقت قبرص وإسرائيل على التعاون والتنسيق في التنقيب عن النفط والغاز الطبيعي واستخراجهما في المناطق الاقتصادية المشتركة التي تجمعهما في شرق المتوسط. بيد أن قبرص التركية رفضت هذا الاتفاق باعتبار أن المنطقة الاقتصادية الخالصة التي حددتها قبرص اليونانية تشمل كل الأراضي القبرصية. وبالتالي لا يحق لقبرص اليونانية التصوف بثروات المنطقة الاقتصادية الخالصة بشكل منفرد، وقامت بخطوات مماثلة عبر ترسيم حدودها البحرية، ووقعت مع تركيا اتفاقاً لترسيم الجرف القاري في عام 2011م، وهو ما نتج عنه تداخل بين المناطق المحددة من جانب الطرفين القبرصيين التركي واليوناني في المناطق التي رسمتها قبرص اليونانية. ومن جانبها رأت تركيا أن المنطقة الاقتصادية الخالصة التي حددتها قبرص اليونانية تتداخل مع الجرف القاري التركي ومع المناطق الاقتصادية الخالصة التابعة لها، كما أن إرساء المناقصات على الشركات الأجنبية التي قامت بها قبرص اليونانية غير قانوني كونه ينتهك حقوق تركيا وقبرص التركية في أنٍ معاً. وذهبت تركيا إلى حد التلويح باستخدام القوة على خلفية اعتراضها على اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر وقبرص، واعتراض تركيا لسفينة تنقيب تابعة لشركة إيني الإيطالية في المياه الإقليمية القبرصية في فبراير 2018م.
- الخلاف التركي ــ اليوناني
تجدد الخلاف بين تركيا واليونان إثر توقيع الأخيرة اتفاق ترسيم الحدود مع مصر في أغسطس 2020م، الذي رأت فيه تركيا انتهاكاً صارخاً لجرفها القاري وهو ما دفعها إلى الإعلان عن التنقيب في مياه المتوسط. وهذا ما دفع تركيا إلى توقيع مذكرة التفاهم مع حكومة الوفاق الوطنية الليبية في نوفمبر 2019م، بشأن السيادة على المناطق البحرية في المتوسط. وعليه، أعلن وزير الدفاع اليوناني "ديمتريس فيتساس" أنه في حال حاولت تركيا توسيع حدودها البحرية فإن اليونان لديها القدرة على الرد بشتى الوسائل بما فيها الدبلوماسية والعسكرية على هذه الإجراء. بل أن اليونان نحت منحىً بعيداً، عندما نشرت عشرات المدرعات الأمريكية في بحر إيجة في جزيرتي "ساموس" و "ليسبوس"، الأمر الذي أثار مخاوف تركيا واعتبرته تهديداً لمصالحها في شرق المتوسط، ومن ثم، فإن التحركات التركية في ليبيا ترتبط بالأساس بسياق التوتر مع اليونان أكثر من ارتباطاتها بمتغيرات المشهد الداخلي الليبي.
كما صرح وزير الخارجية اليوناني "نيكوس كوتزياس" بأن بلاده لن تسمح لتركيا بانتهاك القانون الدولي كما تفعل في الشرق الأوسط، كما صرح رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك بأن لليونان وقبرص لهما الحق السيادي في التنقيب على الموارد الطبيعية في شرق المتوسط. وفي السياق ذاته، دعا الاتحاد الأوروبي تركيا بالابتعاد عن لغة التهديد والامتناع عن أي تصرفات من شأنها الإضرار بعلاقات حسن الجوار مع اليونان.
- الخلاف التركي ــ المصري
تسعى مصر إلى التوسع في عملية التنقيب والاستكشاف عن الغاز لتواكب رؤيتها للتحول إلى مركز إقليمي للطاقة بمنطقة الشرق الأوسط، وتعد شركة إيني الإيطالية المشغل الرئيس لحقل ظهر، حيث تمتلك 60 في المئة منه، ووفق تقديرات الخبراء اعتبر هذا كأكبر اكتشاف في تاريخ البحر المتوسط، بل والعالم، إذ يبلغ حجم احتياطاته 30 ترليون متر مكعب ويحتل مساحة 100 كم مربع، وبدأ الإنتاج الفعلي في أواخر عام 2017م، وارتفع معدل الإنتاج إلى 2.9 مليار متر مكعب يومياً بحلول منتصف 2019م.
وكانت مصر قد حذرت تركيا في فبراير 2018م، من أي محاولة للمساس بسيادتها في منطقتها الاقتصادية الخالصة في البحر المتوسط، وعلى إثر ذلك، أجرت القوات البحرية المصرية مناورات عسكرية لزيادة كفاءة قواتها القتالية وحماية مياهها الإقليمية أمام أي عدوان خارجي. هذا وتحالف مصر مع اليونان وقبرص بهدف استغلال غاز المتوسط ولمواجهة النشاط التركي المتزايد في البحر المتوسط، إذ أن العلاقات التركية / المصرية تشهد مرحلة من التوترات الحادة منذ عزل الرئيس الراحل محمد مرسي في يوليو 2023م، برغم عودة الدفء في العلاقات بين البلدين في الآونة الأخيرة توجت بتبادل الزيارات بين الرئيسين أردوغان والسيسي.
خاتمة
إن تحرك تركيا في ليبيا يحمل في طيّاته، حسابات استراتيجية لها علاقة بمشاريع أنقرة الإقليمية، حيث تعكس مكانة ليبيا في المدرك الاستراتيجي التركي، هذه الحسابات التي تهدف إلى تحويل دفّة التوازن مع القوى الإقليمية لصالح تركيا ودورها، وإبراز حقيقة جديدة أمام العالم تتعلق بالتأثير التركي والحقوق السيادية في منطقة حوض شرقي المتوسط، بالشكل الذي يتماشى مع طموح تركيا الأوسع في تطوير سياسة خارجية أكثر جرأة ووضوحاً لتحقيق المكانة والنفوذ، قوة إقليمية طامحة، وخصوصاً في المجال البحري في البحر المتوسط.
برغم من أن الاهتمام بالنفط والغاز في شرق المتوسط ليس بالجديد، غير الحرب الروسية الأوكرانية القائمة زادت من وتيرة اهتمام دول المنطقة وتحديداً تركيا بمصادر الطاقة في منطقة حوض المتوسط، التي يعطيها قربها من أوروبا أفضلية على بقية مناطق إنتاج الطاقة في العالم، وقد يؤدي ذلك إلى تحول تركيا إلى لاعب رئيس ومهم في سوق الطاقة العالمية مع تنامي الاكتشافات في شرق المتوسط.
إن احتدام التنافس والصراع السياسي في شرق المتوسط، وربما قد يصل في مرحلة من مراحله إلى الصدام العسكري، خصوصاً مع تصاعد التنافس الجيوسياسي بين القوى الرئيسة المهتمة بالمنطقة وثرواتها (تركيا، اليونان، قبرص، مصر، إسرائيل) وغيرها من القوى الدولية الفاعلة كالولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وإيطاليا، وهو ما من شأنه أن يلقي بظلاله السلبية على أمن واستقرار المنطقة برمتها.
مجمل القول إن المشهد الليبي قد يتجه نحو مزيد من التعقيد، وتعميق الانقسامات بين الأطراف الليبية من خلال تحول البلاد إلى بؤرة لمزيد من التنافس الإقليمي، وخلق حالة من الاصطفاف بالنسبة للقوى الخارجية، وهو ما قد يزيد من تفاقم التوترات الداخلية واستمرار حالة الركود بالنسبة للمسار السياسي.