array(1) { [0]=> object(stdClass)#13549 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 203

طموح الجزائر يتوقف على 3 اعتبارات والمنطقة المغاربية تعاني من تناقض الخطاب والسلوكيات

الأربعاء، 30 تشرين1/أكتوير 2024

 تعتبر منطقة المغرب العربي بمثابة الجسر الذي يربط مجموعة من الكتل الحضارية والجيو-استراتيجية البالغة الأهمية. فقد كانت، عبر مختلف المراحل التاريخية البوابة الرئيسية لولوج الأوربيين إلى القارة الإفريقية لتحقيق مآربهم العلنية والخفية في المنطقة. كما أن منطقة المغرب العربي تشكل إحدى أهم جسور الاتصال والتواصل والتفاعل بين المنطقة العربية-بمكوناتها الحضارية والاقتصادية والسياسية المتنوعة-ودول الحضارة المسيحية الليبرالية الغربية. فضلا عن ذلك، فإن الفضاء المغاربي شكل، منذ العصور القديمة، همزة وصل وتقارب بين المجتمعات العربية ومختلف شعوب قارة إفريقيا.

         غير أن ترجمة الأهمية الاستراتيجية والتاريخية والاقتصادية لمنطقة المغرب العربي إلى سلوكيات وأفعال مؤثرة في واقع العلاقات الإقليمية والدولية يتطلب توفر متطلبات الحد الأدنى من الانسجام والتوافق بين الوحدات السياسية المكونة لهذا الإقليم. في هذا السياق، يبدو أن المعطيات والمؤشرات التي ترسم معالم أوضاع وظروف التفاعلات البينية في شمال إفريقيا، منذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، لا تدفع باتجاه منح الإقليم أو أي فاعل من الفواعل الرئيسية المكونة له الكثير من القوة والفعالية سواء لرأب الصدع الذي أصبح يميز العلاقات بين أغلب الدول المغاربية أو للقيام بالدفاع عن مصالح ومكانة اتحاد المغرب العربي في التفاعلات الإقليمية والدولية.

         ومع ذلك، فإن هذه العقبات والمشاكل لن تثنينا عن الغوص في أعماق الإشكاليات والأزمات المهيمنة على العلاقات بين دول المغرب العربي من خلال تشريحها والوقوف على تحديد الإعوجاجات التي تميزها ثم رسم معالم الحلول المستقبلية الممكنة لإصلاحها بالقدر الذي يسمح لدول المغرب العربي مجتمعة أو منفردة للقيام بدور بارز ومؤثر في العلاقات الدولية. من أجل إنجاز هذه الغاية المعقدة، فإننا سوف نركز، في المقام الأول، على حالة العلاقات بين الدول المغاربية وتأثير ذلك على مسار التكامل والاندماج في المنطقة. أما في المقام الثاني، فسوف يتمحور اهتمامنا حول مقومات واحتمالات قيام الجزائر، كدولة رائدة ومركزية في المغرب العربي، بدور فعال وريادي في تحسين العلاقات البينية وإعادة إحياء مشروع اتحاد المغرب العربي. في الأخير، سوف نحاول التركيز على المقاربات والوسائل التي يمكن للجزائر أن توظفها من أجل تدعيم وإحداث نقلة نوعية في العلاقات بين الدول الإفريقية والدول العربية في ظل التحديات والتحولات العميقة والخطيرة التي تشهدها مختلف مسارات ومستويات العلاقات الدولية. وسنحاول ختم هذه المحاولة البحثية باستشراف أبرز المشاهد التطورية لمستقبل دور ومكانة الجزائر في التفاعلات الدولية انطلاقا من كونها وحدة أساسية في المجموعة التكاملية المغاربية.

أولا: العلاقات المغاربية: بين الحسابات القطرية الضيقة وتحديات العولمة

         قد لا نبالغ إذا اعتقدنا بأن مسألة التكامل والاندماج في منطقة المغرب تعتبر من أقدم التجارب التكاملية في التاريخ الحديث. حيث يؤكد الكثير من المؤرخين المهتمين بمنطقة شمال إفريقيا أن النزعة الجماعية والبعد الوحدوي ظهرا، بشكل واضح، في برامج أبرز الحركات الوطنية والأحزاب السياسية المغاربية التي بدأت تتشكل في بداية القرن العشرين. فقد وصل طموح زعماء تلك الحركات الوطنية إلى حد الدعوة إلى قيام جمهورية في شمال إفريقيا تجمع شعوب تونس والجزائر والمغرب. وازدادت هذه النزعة أو التيار الوحدوي القومي في دول المغرب العربي قوة بفعل احتضان الشعوب المغاربية لهذا التوجه. وقد تجلى ذلك، بشكل عفوي ومباشر، في حركات التضامن والتآزر بين هذه الشعوب كلما قام المستعمر الفرنسي بأي إجراء أو سلوك يندرج في إطار قمع أو إعاقة مسار التحرر الذي أصبح أكثر نضجا في مجتمعات المغرب العربي.

         في خضم هذه الظروف والاعتبارات المفعمة بالحماس والتلاحم بين الشعوب المغاربية، سارع قادة الأحزاب المهيمنة على الحياة السياسية في أقطار المغرب العربي (الحزب الدستوري في تونس، جبهة التحرير الوطني في الجزائر وحزب الاستقلال في المغرب) إلى تحويل هذه المشاعر إلى مشروح وحدوي حقيقي. وهو الأمر الذي دفع قادة هذه الأحزاب الثلاثة إلى عقد مؤتمر في مدينة طنجة المغربية في منتصف سنة 1958م، تمخض عنه ما أصبح يعرف باتحاد المغرب العربي. وتنص المادة الثانية من معاهدة إنشاء هذا الاتحاد إلى ضرورة إقامة اتحاد فدرالي يجمع المغرب والجزائر وتونس، وذلك بالرغم من أن الجزائر لم تكن قد حصلت على استقلالها في ذلك الوقت. ومهما كانت المطبات والنقائص التي احتوت عليها معاهدة انشاء اتحاد المغرب العربي، فإن هذه الفترة التاريخية شهدت هيمنة قوية وشاملة للتيار الوحدوي القومي على بقية التيارات القطرية الضيقة المعارضة لمشروع التكامل المغاربي.

         وعلى هذا الأساس، يبدو أن هذه الحقيقة التي هيمنت على العلاقات المغاربية بعد الاستقلال هي التي وفرت الحد الأدنى من التوافق والانسجام الذي ساهم بدوره في استمرار وتطور مسار التكامل في المنطقة وفقا للمنهج الوظيفي الذي اعتمدت عليه أوروبا في إرساء اللبنات الحقيقية لتجربتها في التكامل والاندماج. ومع ذلك، فإن النجاحات القطاعية التي حققتها التجربة التكاملية في المغرب العربي لم تمنع من بروز بعض التناقضات التي كانت في الحقيقة عبارة عن قنابل موقوتة مزروعة في جسم الجماعة المغاربية. فلو كانت النخب السياسية المغاربية صادقة ومخلصة ومؤمنة حقيقة بالتوجه الوحدوي التكاملي في المنطقة، فإن ذلك يعني، بشكل آلي، انصهار دول المغرب العربي في وحدة اجتماعية وسياسية واقتصادية جديدة تذوب وتنتهي في إطارها الحدود القطرية. غير أن الواقع قد أثبت أنه في الوقت الذي كانت فيه بعض النخب السياسية في المغرب العربي تدعي الدفاع عن المشروع الوحدوي، لم تخل خطاباتها السياسية من المطالبة بضرورة " استرجاع " مناطق جغرافية معتبرة من دول أطراف في هذا المشروع الوحدوي. وهو الأمر الذي أسس لبروز تناقض وصراع أبدي بين التيارين الوحدوي والقطري في منطقة المغرب العربي. وقد كان لهيمنة التيار الثاني على مسارات العلاقات المغاربية، منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي الأثر المدمر على مسار ومحتوى التفاعل بين الدول المغاربية. حيث تحولت العلاقات الثنائية بين أبرز دول المغرب إلى حالة اللعبة الصفرية في أغلب الأحوال.

         بعد أكثر من عشر سنوات من الاحتقان والتأزم في العلاقات المغاربية التي أدت إلى تجميد شبه كلي لمسار التكامل في المغرب العربي، طفت على السطح مجموعة من التطورات الداخلية والخارجية بما يكفل إعادة بعث الروح في التفاعلات المغاربية وفي التجربة الوحدوية في المغرب العربي. وبالفعل فقد مهد لقاء التصالح بين قادة الدول المغاربية في زرالدة، غرب الجزائر العاصمة، سنة 1988م، لإعادة بعث مسار التكامل وفقا لأسس ومعايير قانونية واقتصادية حددتها اتفاقية مراكش لسنة 1989م، الخاصة بإنشاء اتحاد المغرب العربي. غير أن هذا الانتعاش في العلاقات المغاربية لم يعمر أكثر من خمس سنوات بحيث كانت التفجيرات الإرهابية في مدينة مراكش المغربية سنة 1994م، بمثابة شهادة الوفاة الثانية لاتحاد المغرب العربي وللتوافق والانسجام في العلاقات المغاربية. وهو الوضع الذي أدى، منذ ذلك الوقت، إلى هيمنة متغيرات الاحتقان والتوتر على العلاقات البينية المغاربية بالقدر الذي يوحي باحتمال انزلاق الأوضاع إلى مستوى الصراعات المسلحة.

         ما يمكن استخلاصه من هذه الإطلالة المختصرة والمبسطة على حالة العلاقات بين دول المغرب منذ الاستقلال إلى يومنا هذا هو ذلك التناقض الصارخ بين النوايا المعلنة في الخطاب السياسي للنخب الحاكمة وبين سلوكياتها الحقيقية في الواقع العملي. لذلك، يبدو من الناحية المظهرية أن كل النحب السياسية الحاكمة في المغرب العربي تروج بل وتلح على ضرورة العمل على توفير الظروف والشروط الحقيقية لتدعيم المشروع الجماعي-الوحدوي في المنطقة. ولكنها، في الواقع العملي تعمل على تحقيق كل ما يمكن أن يدعم توجهاتها وسياساتها التي تندرج في إطار تعظيم الإنجازات القطرية التي تمكنها من تثبيت وتقوية مكانتها وسيطرتها على المستوى القطري. وقد يصل الأمر، في بعض الأحيان، إلى لجوء هذه القيادات إلى حد اتهام بعضها البعض بزعزعة أمن واستقرار أي منها عندما تتعرض لمشاكل واضطرابات داخلية ناتجة عن الإخفاق في تحقيق أهداف بناء الدولة الوطنية.

         بالرغم من التحديات والمخاطر التي أفرزتها التحولات الدولية المتعددة التي تمخضت عن نهاية حقبة الحرب الباردة في العلاقات الدولية والتي تؤكد على أساس أن نظام الدولة القطرية لم يعد يمثل الإطار الأمثل لمقاربة الكثير من الإشكاليات التي أصبحت تواجه الوحدات السياسية، فإن الدول المغاربية لم تتعامل مع هذه الحقائق بالواقعية والبراغماتية المطلوبة. ففي الوقت الذي توجهت فيه أغلب الدول، في كل انحاء العالم، إلى اعتماد المقاربة الجماعية التكاملية لمواجهة تحديات العولمة، عمدت القيادات السياسية في المغرب العربي إلى التشبث بكل ما يمكن أن يدعم مراكزها القطرية ويعمل على تهديد بنية ومسار العمل التكاملي الوحدوي.

 

ثانيا: دور الجزائر في تفعيل العلاقات الإقليمية والدولية

         عادة ما يلجأ المهتمون بدراسة السياسة الخارجية، بشكل خاص، والعلاقات الدولية، بشكل عام، إلى فحص وقياس درجة تأثير الدول وأدوارها في التفاعلات الإقليمية والدولية إلى الاعتماد على مجموعة من المتغيرات والأدوات. تأتي في مقدمة هذه الاعتبارات مكانة الدولة في التصنيف أو الهرمية الدولية التي وضعها رواد الفكر الواقعي منذ أكثر من قرن من الزمن (دول عظمى، دول كبرى، دول متوسطة، دول صغيرة، دول مجهرية). ثم يأتي بعد ذلك المقومات والامكانيات المادية والمعنوية التي تمتلكها الدولة والتي تحدد لها مجال المناورة والتصرف في العلاقات الخارجية. وفي المقام الثالث، تعد قدرة وكفاءة وفعالية صناع القرار على تحويل القدرات والامكانيات إلى أفعال مؤثرة من أبرز العوامل التي تحدد محتوى وشكل الدور التي تقوم به الدولة في محيطها الإقليمي والدولي. وأخيرا، فإن سمعة الدولة ورصيدها التاريخي في العلاقات الدولية تلعب دورا أساسيا في تحديد طبيعة الاستجابة الدولية للأدوار التي تريد القيام بها.

          انطلاقا من هذه المعطيات النظرية، يمكن القول ان الجزائر تتوفر على الحد الأدنى من الشروط والمتطلبات التي تسمح لها من القيام بدور لا يستهان به في إحداث نقلة نوعية في العلاقات البينية في منطقة المغرب العربي، وفي تدعيم الروابط بين دول الشمال المتقدمة ودول العالم الثالث، وفي تجسير وتقوية العلاقات بين الدول العربية والقارة الإفريقية. فالسياسة الخارجية للجزائر، التي استلهمت مبادئها الأساسية من القيم والمثل التي قامت عليها الثورة الجزائرية ضد المحتل الفرنسي، اكتسبت زخما وتراكما هائلا من النجاحات سواء في الدفاع عن مصالح دول العالم الثالث أو في تبوء مكانة الريادة في العمل الوحدوي القومي العربي أو حتى في حلحلة وتسوية الكثير من القضايا والأزمات الدولية. وهو الأمر الذي ساهم في حصول السلوك الخارجي الجزائري على قبول ومصداقية واسعة لدى الكثير من دول العالم بما يسمح لها من القيام بعمليات الوساطة والتدخل في حل العديد من النزاعات الدولية بكل فعالية ونجاح.

         غير أن التحولات السريعة والمؤثرة التي برزت في العقد الأخير من القرن العشرين على مستوى البيئة الداخلية والإقليمية والدولية للجزائر اضعفت إلى حد كبير قدراتها على تحقيق إنجازات فعالة في سياستها الخارجية. فالصعوبات والمشاكل التي واجهتها الجزائر أثناء فترة ما أصبح يعرف بالعشرية السوداء كان لها الأثر البالغ في زعزعة وإضعاف كل مكونات البيئة الداخلية بشكل جعل السياسة الخارجية شبه مشلولة في تلك الفترة. كما أن بروز الاضطرابات التي غالب ما وصفت بثورات الربيع العربي وانتشار حالات تفكك وفشل مسار بناء الدولة القطرية في دول الجوار الإفريقي شكلت سياجا حديديا لا يمكن للسياسة الخارجية أن تتجاوزه خاصة في ظل تقديس الجزائر لمبدئ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول. أما على المستوى الدولي، فقد كان لانهيار الاتحاد السوفييتي وتسارع مسارات عولمة مكونات النموذج الليبرالي الغربي الأثر السلبي على الأدوار التي كانت مرتبطة بالسياسة الخارجية الجزائرية خلال الحرب الباردة.

         على ضوء كل هذه الاعتبارات والحقائق، يبدو أن البيئة الدولية الأكثر فوضوية، في تاريخ العلاقات الدولية، التي أفرزتها تحولات ما بعد انهيار نظام الثنائية القطبية لم تترك للدول المتوسطة الحجم الكثير من الفرص والفضاءات للقيام بدور فعال في الساسة الخارجية. فقد تحولت صلاحيات السلوك المؤثر في النظام الدولي إلى عواصم الدول " المنتصرة " في الصراع الإيديولوجي الثنائي الذي هيمن على جل مراحل فترة الحرب الباردة. بل أن هذه العواصم قد لجأت في الكثير من المناطق الجغرافية إلى تحويل هذه الصلاحيات والوظائف إلى وكلاء إقليميين عن طريق ما أصبح يعرف بعمليات المناولة في السياسية الخارجية. وهو الأمر الذي ساهم في تكبيل الدور الخارجي الجزائري خاصة في المنطقة العربية وافريقيا. لذلك، يجوز الاعتقاد بأن تحولات ما بعد الحرب الباردة ساهمت في إدخال تغييرات معتبرة على مسألة الهرمية في النظام الدولي وطبيعة ومحتوى السلوكيات الخارجية التي ترتبط بكل صنف من أصناف الدول المندرجة في هذه الهرمية.

 

ثالثا: مستقبل الدور الجزائري في التفاعلات الإقليمية والدولي

         بالرغم من أن الجزائر تتوفر على الكثير من الاعتبارات التاريخية والمقومات المادية والمعنوية وكذا المكانة والسمعة المرموقة، التي تؤهلها لتبوأ مكانة مؤثرة في الساحة الدولية، فإن قيامها – في المستقبل القريب-بدور فعال في إعادة تفعيل العلاقات المغاربية وأداء وظيفة تجسير وترقية التفاعلات بين الدول العربية وكل من الاتحاد الأوربي والدول الإفريقية تتوقف على توفر مجموعة من الشروط والاعتبارات. بحيث تأتي مسألة الاستمرار في تحسين وتطوير البيئة الداخلية في كافة المجالات على رأس هذه المتطلبات. فوحدة وقوة مكونات البيئة الداخلية للدول عادة ما تكون لها تداعيات مباشرة على مدى فعالية وقدرة تأثير سلوكياتها الخارجية: فالسياسة الخارجية هي عبارة عن مرآة تعكس بدقة حالة الأوضاع الداخلية للدول. وفي هذا الصدد، يمكن القول، بكل موضوعية، أن المؤشرات التي ميزت حالة البيئة الداخلية في السنوات العشر الأخيرة في الجزائر في أغلب الميادين توحي بإمكانية القضاء على أغلب المشاكل التي قد تؤدي إلى حدوث تحول سلبي في الأوضاع الداخلية للجزائر في المستقبلين المباشر والقريب.

         إلا أن الأوضاع على المستوى الإقليمي (المغاربي والعربي) تبشر بالمزيد من التعقيد والتأزم بما لا يسمح للجزائر بالقيام بدور حيوي في تفعيل العلاقات بين دول المنطقة تماشيا مع عناصر التقارب والانسجام والتداخل بين الشعوب العربية. فعلى مستوى منطقة المغرب العربي، يبدو أنه فضلا عن استمرار التناقض والاختلاف بين الجزائر والمغرب حول العديد من القضايا المحورية والسيادية، فقد طفت إلى السطح، في الفترة الأخيرة، مسألة تطبيع العلاقات بين الكيان الصهيوني والمملكة المغربية بوتيرة ومحتوى أثرا بشكل سريع على تدهور ثم انهيار العلاقات بين الدولتين المحوريتين في شمال إفريقيا وهو ما يؤشر إلى إمكانية استمرار الجمود في مسار التكامل المغاربي إلى أجل غير محدد. ففي ظل هذا التناقض الصارخ في رؤى وتصورات وأهداف الدولتين المحوريتين في المغرب العربي لم يعد هناك أي احتمال لتفعيل مسار التكامل المغاربي بالصيغة والأهداف المحددة في اتفاقية مراكش الخاصة بإنشاء اتحاد المغرب العربي. وهنا يصبح المخرج الوحيد لحلحلة هذه الإشكالية يتمثل في البحث عن صيغة مؤقتة للتكامل المغاربي لا يجتمع فيها بالضرورة كل من المغرب والجزائر.

         أما على مستوى النظام الإقليمي العربي، فإن صور ومشاهد مستقبل دور الجزائر سواء في تفعيل العلاقات العربية أو في تطوير وتحسين سبل التواصل والتفاعل بين الوطن العربي وبقية المناطق الجغرافية، تبدو متشائمة للغاية. وتعود أسباب هذا التشاؤم إلى اعتبارين أساسيين: يتمثل الأول في انهيار النسق الفكري والإيديولوجي الذي كان بمثابة الأسمنت الذي حافظ على متانة وفعالية العمل القومي العربي المشترك منذ قيام جامعة الدول العربية، الأمر الذي أدى إلى إحداث شلل شبه كلي في وظيفة مؤسسات النظام الإقليمي العربي. فقد كانت هذه البيئة المعنوية والمؤسساتية بمثابة الوقود الضروري لقيام الدول الرائدة في النظام الإقليمي العربي، مثل الجزائر، بدور حيوي سواء فيما يتعلق بتصحيح الإعوجاجات التي قد تصيب العلاقات بين الدول العربية أو بينها وبين بقية الفواعل الدولية. ويتمحور الاعتبار الثاني حول تداعيات وانعكاسات رغبة وإصرار بعض القوى الدولية والإقليمية غير العربية في تفكيك وإعادة بناء النظام الإقليمي العربي وفقا لمصالحها ومشاريعها المستقبلية في المنطقة. وقد ازداد هذا الأمر تعقيدا بفعل انخراط بعض الدول العربية في تحقيق الأهداف المعلنة والخفية لاستراتيجيات هذه القوى الأجنبية عن طريق ما أصبح يعرف بدور المناول الإقليمي. وكان طبيعيا ومنطقيا أن تؤدي هذه الحالة المرضية في النظام الإقليمي العربي إلى تجريد أغلب الدول العربية الفاعلة في هذا النظام من أبرز الأدوار والوظائف التي كانت تقوم بها في فترات سابقة.

         وأخيرا، فإن الوضع على مستوى قيام الجزائر بربط وتوطيد جسور التواصل والتفاعل بين المنطقة العربية وغيرها من التجمعات ومراكز الثقل الاقتصادي والسياسي والعسكري في بقية أنحاء العالم لا يختلف كثيرا عن الحالة في شمال إفريقيا والوطن العربي. ذلك أن إحدى أبرز مفارقات تحولات ما بعد انهيار نظام الثنائية القطبية تتمثل في أنه إذا كان الشمال المتقدم يتجه نحو تطوير الآليات الجماعية للتعامل مع إفرازات وتحديات المرحلة الجديدة، فإنه يحبذ التعامل مع دول الجنوب بصفة منفردة. وقد كان لانهيار التضامن والأطر الجماعية للتنسيق واتخاذ القرارات في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية الأثر المباشر لهيمنة الرؤية الجماعية للدول الرأسمالية المنتصرة في صراع الحرب الباردة. وعليه، فإن أي دور مستقبلي للجزائر في ترقية العلاقات بين الدول العربية وغيرها من بقية فواعل النظام الدولي مقيد بهذه الحقائق التي كرسها اتجاه العولمة في العلاقات الدولية وبانعدام الإرادة السياسية والبنية النسقية التي تؤسس للسلوكيات الجماعية في المنطقة العربية.

          في ختام هذه المحاولة البحثية حول دور الجزائر في تفعيل العلاقات المغاربية ودعم العلاقات بين الدول العربية وبقية المجموعات الحضارية والجيو-سياسية، يمكن القول إن المقومات المادية والمعنوية والشخصية الكفيلة بتحقيق هذا الغرض بشكل ملموس وفعال بدأت تتعاظم في العقد الأخير من هذا القرن. غير أن تحويل هذه الامكانيات إلى أفعال مؤثرة لتحسين وإصلاح العلاقات البينية في منطقة المغرب العربي وترقية التفاعلات بين الدول العربية وغيرها من الفواعل الدولية يتوقف على ثلاثة اعتبارات أساسية. يتمثل الأول في طبيعة النظام الدولي الذي سوف يفرزه الصراع الحالي بين المدافعين عن الأحادية في النظام الدولي وبين الذين يصارعون لتحويل وضع ما بعد انهيار نظام الثنائية القطبية إلى نظام دولي متعدد الأقطاب. فكلما اتسعت دائرة أقطاب هذا النظام، كلما ساهم ذلك في منح مزيد من مجال المناورة والتصرف لدى القوى المتوسطة مثل الجزائر. ويكمن الاعتبار الثاني في القيام بحركة إصلاح واسعة النطاق في أنساق وبنية اتخاذ القرارات الجماعية في العالم الثالث بما في ذلك منطقة المغرب العربي والنظام الإقليمي العربي، وهو ما يمكن أن يسمح للجزائر القيام بالدور القيادي الذي كانت تقوم في سبعينيات القرن الماضي. وأخيرا فإن الاعتبار الثالث يتمحور حول تجديد القيم والمبادئ أو ما يسمى أحيان بالنسق الفكري الذي يشكل المصدر الحقيقي لشرعية وصحة ومصداقية السلوك الخارجي لوحدات النظام الدولي. وقد يفيد هذا الأمر في تصحيح إدراكات النخب السياسية في المنطقة العربية تجاه القضايا العربية المشتركة، ويقضي على حالة الفوضى التي هيمنت على الشأن العربي منذ أكثر من ثلاثة عقود وعبدت الطريق أمام مختلف أشكال التدخل في شؤون العرب.

مقالات لنفس الكاتب