تتمتع تونس بموقع جغرافي متميّز مكّنها من أن تكون مسرحا لحضارات كبيرة مرّت بها ولحروب غيّرت مجرى التاريخ أحيانا، ولا غرْو في ذلك، إذ هي تشرف على حوضيْ البحر الأبيض المتوسّط، ولديها إمكانية التحكّم فيهما باعتبارها تتوسّطه تقريبا، وتبعا لهذه الحظوة الجغر-استراتيجية، فقد باتت تونس مَحَجًّا لموْجات بشرية متدافعة خلال الحقب التاريخية، بعضها ذي طبيعة عدوانية توسّعية والبعض الآخر يندرج في باحة التثاقف، ولكن تنتهي أغلبها بالانصهار في "البوتقة" التونسية وإلاّ فإنّها ستضمحلّ حتما.
لعلّ أوّل الوافدين إليها كان الفينيقيون الساميون منذ القرن الثاني عشر قبل الميلاد، ولكنّهم بقوا على سواحلها لم يتجاوزونها إذ كان هاجسهم إقامة مراكز تجارية كنقاط مرور ضرورية لهم آنذاك، ثمّ كانت قرطاج ذات الأصول الفينيقية منذ القرن التاسع قبل الميلاد التي تمكّنت من أن تتفاعل مع السكّان الأقدم لتونس وهم اللوبيون، وتغلغلت أكثر في العمق التونسي وأنشأت حضارة تجارية وعسكرية كبيرة مكّنتها من أن تهيمن على حوض البحر المتوسّط لقرون، لم تنازعها فيها إلاّ روما، التي تمكّنت من دحرها ودمّرت قرطاج في سنة 146قبل الميلاد، لكن بقيت روحها وحضارتها مبثوثتين إلى الآن.
ومن الواضح أنّ الامبراطورية الرومانية ما كانت لتتّسع وتهيمن على كلّ الحوض المتوسّطي وتتوسّع في دواخيه على غرار منطقة الشرق إلاّ بعد أن أزالت العقبة القرطاجنيّة اللدودة.
لكن ما إن ضعفت روما واكتسحتها القبائل الجرمانية حتى انعكس ذلك على تونس بوفود ما يسمّى الوَنْدال إليها، ثمّ تمكّنت بيزنطة من أن تحافظ على الإرث الروماني فاستعادت السيطرة على تونس إلى أن أتى العرب المسلمون في القرن السابع ميلادي إليها.
وبما أنّ توجّه العرب المسلمين مثلهم مثل الرومان هو السيطرة الكلّية على كلّ منطقة شمال افريقيا، فقد تمكّنوا من ذلك بعد أن تكبّدوا خسائر كبرى جرّاء المقاومة الشرسة للبربر، في الأثناء، "استنبط" سكّان هذه المنطقة توجّها يعبّرون به عن رفضهم للأمر الواقع ويتمثل في معاضدة كلّ الحركات والمذاهب الاحتجاجية التي تلجأ إليهم من منطقة المشرق العربي منذ البدايات الأولى للوجود العربي، كالأدارسة العلويين والخوارج والشيعة الفاطميين.
ممّا تقدّم، الثابت أنّ البعد العربي الإسلامي بات قائما في تونس، ومن الصعب حصر كلّ المجموعات التي استقرّت في تونس إمّا لماما أو بصفة دائمة، لكن ما يلفت الانتباه هو الاهتمام المفاجئ الذي بات لتونس خلال القرن السادس عشر والرجوع الحاسم لدقّة موقعها الجغر-استراتيجي، إذ أصبحت تونس كما الجزائر والمغرب الأقصى وطرابلس ليبيا في دائرة التوسّع الاسباني المسيحي خاصّة والمغلّف برغبة موتورة من أيّام العرب المسلمين في الأندلس، وذلك عقب سقوط آخر معقل لهم وهي غرناطة سنة 1492م، ومنذ ذلك التاريخ، سينتقل الصراع إلى جنوب البحر الأبيض المتوسّط وستقوده اسبانيا من أجل الهيمنة على بلدان تحمل وزْرا تاريخيا سابقا ويتمثل في "احتلال" الأرض الاسبانية وتسميتها بـ"الأندلس".
وهذا يعني أنّ "الاحتكاك" إنْ في صورته "السلمية" أو "العنيفة" لم يعد مقتصرا على الشرق المتوسّطي أو شماله القريب جدّا وتحديدا روما، بل انتقل مركز الثقل إلى غرب البحر الأبيض المتوسّط وتحديدا شبه الجزيرة الايبيرية: اسبانيا والبرتغال، إذ كثفتا من محاولاتهما التغلغل في منطقة شمال افريقيا وتمكّنتا من اختراقها إلى الآن من خلال مستعمرتيْ سبتة وملّيلية المغربيتيْن.
ولم تتمكّن هذه البلدان بما فيها طرابلس ليبيا من دحر هذا الخطر إلاّ بفضل الدعم العثماني في القرن السادس عشر، بينما اعتمد المغرب الأقصى على قواه الذاتية لدفع كلّ هذه الأخطار ولو نسبيا.
من الجليّ أنّ استهداف كلّ منطقة شمال افريقيا ليس بالأمر الجديد، فقد ترسّخ خصوصا مع الوجود الروماني فيها وكذلك العربي الإسلامي فالموحّدين فالإسبان فالأتراك والفرنسيين والايطاليين، قد تكون تونس منطلقا لهذا "الاستهداف" كما حدث إبّان الصراع الروماني القرطاجي، وقد تكون طرابلس ليبيا كذلك مع الفتح العربي الإسلامي في القرن السابع ميلادي وقد يكون المغرب الأقصى منطلقا لهذا التهديد مع الاسبانيين في القرن السادس عشر ميلادي، كما قد تكون الجزائر أيضا نقطة الارتكاز الأساسية في الاستحواذ على شمال افريقيا والتغلغل التدريجي في مناطقه وهذا ما تجلّى إبّان بدايات العثمانيين في القرن السادس عشر ميلادي وخاصّة مع الاحتلال الفرنسي منذ سنة 1830م.
ومن المفارقة أنّ الاستعمار اللاتيني لهذه المنطقة سيكون الدافع الأكبر نحو خلق وعي جماعي لدى سكّانها وخاصّة لدى نخبها منذ بداية القرن العشرين بضرورة التنسيق وتوحيد المواقف والتحرّكات و"النبش" في أغوار ما يوحّد بين سكّان تونس وباقي بلدان شمال افريقيا، فتمّ إبراز ذات اللغة والدين والأصل والتاريخ والعادات والتقاليد، وترسّخت تدريجيا لدى الجميع بأنّ هذه البلدان قائمة الذات وكيانات ترزح تحت الاستعمار، لكن هي في الواقع كيان واحد وشعب واحد في مناطق مختلفة، ومن هنا ظهرت تباعا وبصفة متصاعدة حركات تدعو إلى التنسيق والتوحّد بين مختلف أقطار شمال افريقيا أو ما سيعرف لاحقا بتسمية "المغرب العربي".
وهنا بالذات، كان للنخبة التونسية الدور الهامّ في الدفع نحو هذا الوعي الجماعي بوجود "أمّة شمال افريقية" منذ عشرينات القرن العشرين، والتي ستتبلور مع الأربعينات في فكرة "المغرب العربي" بعد أن كان يرمز لها فقط بكلمة "المغرب" في الجمْع خلال الحرب العالمية الأولى، وقد بلغ هذا الوعي أقصاه مع إنشاء "مكتب المغرب العربي بالقاهرة" سنة 1947م، وهو أحد أفضل الأمثلة على إمكانية تجسيم هذا الحلم لدى النخبة الوطنية، لكن، للأسف، لم يدم طويلا إذ سرعان ما عصفت به الخلافات لدوافع يطول شرحها هنا.
الوجود الاستعماري دافع للتقارب والتنسيق
ومن البديهي أن يدفع الوجود الاستعماري هذه النخب إلى التقارب والتنسيق في المجال الثقافي وخاصّة السياسي، وذلك جرّاء استغلاله للثروات واستنزافها وعمله على محو الذاتية الهويّاتية لكلّ مجتمع، إذ أبان لها هذا المحتلّ بأنّها تعيش ذات القدَر وأنْ لا خلاص لها إلاّ بالعمل على بحث أوجه التشابه واستبعاد أوجه الاختلاف أو تلك التي تدفع نحو الخلاف، تجنّبا منها لِتأْبِيد الليل الاستعماري لشعوبها.
لذلك، ستتسارع محاولات التنسيق خاصّة في فترة الخمسينات من القرن العشرين وهي التي شهدت استقلال تونس وليبيا والمغرب الأقصى، ولم تتمكّن الجزائر من مقاومة الاستعمار الفرنسي والانتصار عليه وتحقيق استقلالها سنة 1962م، إلاّ بفضل الدعم الكبير الذي تلقته جبهة التحرير الوطني الجزائرية من تونس المستقلّة ومن المغرب الأقصى المستقلّ، إذ كان جيش التحرير الوطني الجزائري مرابطا على التخوم التونسية كما المغربية فيتوغّل في عمق الأراضي الجزائرية المحتلّة ثمّ يعود إلى قواعده في هذين البلدين دون أن تتمكّن فرنسا من تعقب مقاوميه، بل ووصل الأمر في تونس إلى احتضان الثورة الجزائرية وتمكينها من أن يكون لها موطئ قدم كبير إلى درجة إقدام فرنسا الاستعمارية على معاقبة تونس وذلك بقصف بلدة ساقية سيدي يوسف التونسية بالطائرات يوم 8 فبراير 1958م.
إنّ هذا الموقف التونسي الداعم لبلدان الجوار هو أمر ثابت ومبدئي، تجلّى أوّلا في "احتضان" التونسيين لليبيين الفارّين من الغزو الايطالي لبلدهم سنة 1911 م، فوفّروا لهم كلّ شيء بالرغم من أنّ تونس تقبع تحت الاستعمار الفرنسي، لكن جذوة التونسيين في نجدة "أشقائهم" الليبيين كانت أكبر من أن يمنعها الاستعمار، وذات الجذوة رأيناها في سنة 2011م، خلال الفترة التي ميّزت الانتفاض ضدّ حكم الزعيم الراحل معمّر القذافي وما بعد نهاية حكمه، إذ آوى التونسيون الليبيين في منازلهم، ووفّروا لهم ما يحتاجونه بالرغم من أنّهم كانوا يتجاوزون المليون وربّما أكثر بكثير من ذلك.
وقد تكرّر الموقف التونسي الداعم لبلدان الجوار مع الجزائر، إذ بات ممكنا للجزائريين، إثر استقلال تونس، من أن يستقرّوا فيها ليس كثوّار جبهة التحرير الوطني فقط بل كمدنيين جزائريين، وكان عددهم كبيرا إضافة إلى أنّ تونس باتت لفترة ما مقرّا للحكومة الجزائرية المؤقتة للجمهورية الجزائرية التي تكوّنت سنة 1958م.
الاستعمار الأوروبي كان حافزا قويّا للشعور بوحدة الانتماء ووحدة المصير
وقدْر ما كان الاستعمار الأوروبي في تونس وهذه البلدان حافزا قويّا للشعور بوحدة الانتماء ووحدة المصير، إلاّ أنّ خروجه منها لم يعجّل بتجسيم هذا الشعور بل العكس هو الذي حدث، بالرغم من بعض المحاولات المحتشمة هنا وهناك على غرار معاهدة الصداقة بين تونس والمغرب الأقصى في بداية الاستقلال وخاصّة مؤتمر المغرب العربي في طنجة سنة 1958م، الذي كان الغاية من عقده تجسيم آمال وأحلام أجيال من النخبة الوطنية والسياسية لهذه البلدان في التوحّد وبناء كيان المغرب العربي الواحد.
وقد تمّ اعتبار جبهة التحرير الوطني الجزائرية في هذا المؤتمر الممثل الشرعي الوحيد للشعب الجزائري، ممّا أعطى آمالا كبيرة بقرب تحقيق الحلم الشمال الافريقي أو حلم المغرب العربي بمجرّد حصول الجزائر على استقلالها والذي تمّ فعلا في يوليو 1962م، لكن تبخّرت كلّ الآمال في تجسيم هذا الحلم مع أوّل حرب، حرب "الرمال المتحرّكة" بين الجزائر والمغرب سنة 1963م، وقبلها الأزمة السياسية الحادّة بين تونس والجزائر على خلفية اكتشاف محاولة الانقلاب على حكم الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة في ديسمبر 1962م.
وهكذا تفكّكت الأواصر بين هذه البلدان واختلفت مواقفها إقليميا وعالميا وزادت الحرب الباردة في تغذية هذا التباعد، وبقي شعار المغرب العربي رنّانا في الآذان لا غير إلى الآن وكلفته باهظة جدّا على المستوى الاقتصادي خاصّة.
ولم يكن للماضي القريب كما البعيد أيّ أثر في استنهاض همم هذه البلدان التي اكتوت طيلة تاريخها بالاحتلال الأجنبي من أجل دفعها لبلورة مواقف متقاربة على الأقلّ درْءًا للمخاطر التي تتهدّدها بين الفينة والأخرى، وذلك بالرغم من أنّ النخب الحاكمة لما بعد الاستقلال هي من رحم هذه المجتمعات وليست بدخيلة عنها.
غياب الثقة الدائمة بين كلّ أطراف منطقة المغرب العربي
صحيحٌ أنّه ثمّة محاولات لتجاوز الصدع ورأب الخلافات التي تستفحل أحيانا، لكن لم تكن بقادرة على إرساء ثقة دائمة بين كلّ أطراف منطقة المغرب العربي، فالتوجّس هو الغالب، وكلّ رغبة في التنسيق ينظر إليها شزْرًا، فما هي إلاّ رغبة من هذه الدولة أو تلك في فرض وصاية ما أو تمرير برنامج ما! لذلك لم تصمد كثيرا محاولات التقارب التونسي الجزائري منذ السبعينات من القرن العشرين، ولم تقبل تونس خلال زمن الرئيس الحبيب بورقيبة بدعوة الرئيس الجزائري الأسبق هواري بومدين للوحدة بين البلدين، كما لم تصمد كثيرا معاهدة الإخاء والوفاق بين البلدين سنة 1983م، وربّما حالة الموت السريري التي يعيشها "اتحاد المغرب العربي" منذ سنة 1994 م، إلى حدّ الآن هي التي تبيّن وبوضوح مدى العجز المزمن عن التأسيس لمرحلة مغايرة في هذه المنطقة تقطع نهائيا مع حزازات ما بعد الاستقلال.
وذلك بالرغم من أنّ الحماس كان فيّاضا عند الإعلان عن تأسيس "اتحاد المغرب العربي" سنة 1989م، وقد تشكّلت هياكل قصد ضمان مقوّمات النجاح لهذا المشروع-الحلم، لكن الاعتداء المسلّح الذي حدث في مرّاكش سنة 1994 م، كان كافيا بإجهاض المسار إلى الآن، ممّا يدلّل على مدى هشاشة المسار وانعدام أيّ توجّه لتحصينه من الهزّات المحتملة، وقد بيّنت هذه الانتكاسة أنّ طريق "المغرب الموحّد" ما زال بعيدا!
تحدّيات قيء ظل لخاطر مُعَوْلَمَة كالتطرّف والإرهاب
في الأثناء، لا يمكن لأيّة دولة في هذه المنطقة أن تواجه التحدّيات بمفردها خاصّة وأنّنا نشهد منذ أكثر من عقدين تزايدا لمخاطر مُعَوْلَمَة كالتطرّف والإرهاب اللذيْن باتا عابريْن للقارّات، فأن تقع الجزائر فريسة لعشرية الإرهاب السوداء في التسعينات من القرن العشرين، وأن تنهار ليبيا أو هي مهدّدة بذلك منذ أن انهار نظام العقيد الراحل معمّر القذافي في 2011م، فهذا يرجع إلى انعدام الوعي بضرورة التعالي على الحسابات القطرية، وتغليب التوجّه الجماعي لكتلة تتشابه إلى حدّ الانصهار، ويُنظر إليها من الخارج الذي يتربّص بها أحيانا وفقا لمصالحه أنّها كذلك، بينما هي تنظر لنفسها أنّها متباعدة إلى حدّ التنافر، وحتى الصدام أحيانا، كما حدث إبّان أحداث مدينة قفصة التونسية سنة 1980م، جرّاء رغبة ليبية في إنهاء وجود نظام الرئيس الحبيب بورقيبة، أو القطيعة الحاصلة حاليا بين الجزائر والمغرب، والتي لا نعتقد بتاتا أنّها ستنتهي قريبا بالنظر إلى تعقد الخلاف بينهما وتشعّبه.
وقد تَبيّنَ وبوضوح مدى هشاشة هذه البلدان في حالة ضعفها أو انهيار أنظمتها، إذ يتراءى من بعيد شبح التفتيت والتفكيك فتهافت بعض القوى الخارجية معتمدة على مجموعات من الداخل أو تجلبها إلى هذه البلدان من أجل أن يكون لها موطئ قدم تتمكّن من خلاله من استغلال هذه الثروة النفطية والسوق الاقتصادية التي يمثلها هذا البلد أو ذاك كما هو الحال مع ليبيا مع انهيار نظام العقيد القذافي.
ويمكن اعتبار الحالة الليبية هنا أفضل مثال على تبيان ماهية ما بعد انهيار النظام / الدولة في منطقة المغرب العربي، إذ سرعان ما أصبحت ليبيا – إن صحّت هذه الكلمة-"لِيبِيَاتًا" تتحكّم في كلّ منطقة منها ميليشيا من الميليشيات المسلّحة، وتغذّت مجموعات إرهابية محلّية من هذا التشظّي فتمكّنت من أن يكون لها موطئ قدم باختراقها لمدن ومناطق كدرنة في 2012م، وسرت سنة 2015 م، معتمدة في ذلك على تعزيزات "إرهابية" عابرة للبلدان، ثمّ انتقلت ليبيا إلى خانة التجاذبات الاقليمية والدولية بالنظر إلى مخزونها النفطي والغازي الكبير في البرّ والبحر الأمر الذي زاد في تعقيد الوضع المعقّد أصلا، وأفقد الأمل من إمكانية قدرة الليبيين على تجاوز هذه الظرفية والخروج ببلدهم من حالة "اللادولة" إلى حالة الدولة المركزية.
وهنا تتراءى تونس أفضل بكثير من ليبيا بالرغم من أنّ ما سمّي بـ"الربيع العربي" قد انطلق منها سنة 2011 م، وشملت العدوى عدّة بلدان عربية ومنها ليبيا، إذ كان التماسك أفضل بكثير من ليبيا، فانهيار النظام في تونس سنة 2011 م، لم يؤدّ وعلى عكس ليبيا إلى انهيار الدولة، لكن لم يمنع ذلك من أن يخترق الإرهاب تونس بداية من 2012م، والذي تنامى كثيرا مستغلاّ حالة الإرباك التي ميّزت الدولة كما حالة التداعي المُعوْلم من أجل إسقاط أنظمة محدّدة، لعلّ ما جسّدها وبوضوح هو تنظيم داعش الذي تمكّن من أن يتمدّد طيلة العشرية الفارطة في كلّ من سوريا والعراق وليبيا وبدرجة أقلّ تونس وفي مناطق افريقية كنيجيريا ومالي..
صحيحٌ أنّ تونس لا تمثل ثقلا اقتصاديا كبيرا ولا تتمتع بثروات نفطية كبيرة على غرار ليبيا أو دول أخرى، لكن لم يمنعها ذلك من أن تتعرّض إلى هزّات كبيرة ارتداداتها اقليمية على وقع التنافس المحموم الذي ميّز دول الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسّط من أجل السيطرة على منابع محتملة للغاز الطبيعي والنفط في أعماق البحر، وقد شكّلت ليبيا هنا الخاصرة الرخوة التي تغلغلت منها دولة كتركيا التي حاولت أيضا "احتواء" تونس من خلال تأييد فصيل سياسي محدّد، وقد يكون هذا التوجّه غايته تأمين ظهرها وظهر حلفائها في ليبيا حتى يمكن تحقيق المكاسب الاقتصادية المرجوّة فيها، إذ أنّ "تأمين" ليبيا سيمكّن تركيا من أن تخترق العمق الافريقي انطلاقا منها، تماما كما تصوّرت ذلك روسيا وعملت على إنجازه دون جلبة في السنوات الأخيرة.
ولا يمكن أن نستوعب هذا التوجّه في اختراقٍ لمنطقة شمال افريقيا خارج الحسابات الدولية، صحيحٌ أنّ العامل الاقتصادي له تأثير كبير مثلما بيّنا، لكنّه غير كاف لتبيان مدى "الحظوة" التي باتت عليها منطقة البحر الأبيض المتوسّط برمّتها، فالقطبية الأحادية التي تميّزت بهيمنة الولايات المتّحدة الأمريكية على العالم منذ سنة 1991م، قد انتهت، وحاليا ثمّة محاولات مستحثة من أجل فرض العالم المتعدّد الأقطاب، لعلّ سمته بدت من خلال التدخّل الروسي في أوكرانيا سنة 2022م، وعجز الولايات المتحدة الأمريكية عن إيقافه كما عجزها عن إثناء الصين وردعها في تغلغلها التجاري والاقتصادي وتهديدها الحقيقي للمصالح الغربية الحيوية.
لذا بدت مناطق العالم كرقعة الشطرنج من جديد مثلما حدث في الحرب الباردة "الأولى" منذ سنة 1947م، لكن المتنافسين الآن أكبر عددا، لذا بات العالم على شفا حروب باردة إقليمية كتلك التي يعايشها الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسّط وتكتوي به دوله خاصّة على ضوء ما يحدث الآن في فلسطين ولبنان، فالصراع المحتدم ظاهريا بين دولة اسرائيل والمقاومة في لبنان وفلسطين هو صراع بالوكالة لدول أخرى إقليمية وحتى عالمية تريد أن "تحتوي" هذه المنطقة الاستراتيجية والمثقلة تاريخيا والغنيّة "موارديًا"، لذا فالاقتتال لن ينتهي والمجازر لن تتوقف ما لم تحقق الغاية المبطنة لدى هذا الطرف أو ذاك وهي ضرورة إنهاء وجود الآخر حتى يمكن الاستفراد بهذه المنطقة.
ولو نظرنا من زاوية جيو-استراتيجية، لأمكن لنا ملاحظة أنّ المنطقة العربية برمّتها مهدّدة في مجالها الحيوي إذا لم يقع تدارك الأمر، فمن الشمال الشرقي والشرقي ثمّة إيران ومن الشمال تركيا ومن الغرب كيان اسرائيل ومن يدعّمه، وفي ذات الوقت "الجناح الغربي" لهذه المنطقة العربية وتحديدا شمال افريقيا بعض دوله مفكّكة أو ثمّة محاولة لتفكيكها حتى يسهل انقيادها إلى رقعة الشطرنج الموجودة.
وكأنّ واقع دول شمال افريقيا حاليا يذكّرنا بذات الواقع خلال القرن السادس عشر عندما بات حوض البحر الأبيض المتوسّط قطب الرحى ومركز الثقل العالمي، فكان مسرحا لصراع دام بين القوّتين الأعظم اسبانيا الكاثوليكية والعثمانيين للسيطرة عليه وعلى مضائقه ومنافذه، فما الذي تغيّر الآن لدى دول الضفاف وتحديدا دول شمال افريقيا مع استرجاع هذا الحوض لِوَهَجِه الاستراتيجي و"تدافع" القوى الكبرى عليه واستحثاثها لتغييرات دراماتيكية على ضفافه؟ في الواقع لا شيء! لأنّها وببساطة في حالة سبات كأسلاف القرن السادس عشر!؟ فهل ستتكرّر مأساة هذا القرن ولو بشكل مغاير؟! حقيقةً لا نرجو ذلك بالمرّة!
لذا، لا خيار لمنطقة المغرب العربي تحديدا إلاّ بالتعالي على كلّ الخلافات ووضع اليد في اليد من أجل وضع حدّ لحالة الاختراق والدفع نحو التفتيت تمهيدا للسيطرة، وهذا لا يمكن حدوثه إلاّ من خلال استنهاض التاريخ والتذكير بأمجاد الماضي وتضحيات الآباء والأجداد من أجل تحقيق الحلم الذي لم ينجز وهو كيان المغرب العربي، والتذكير دوما بأنّ كلفة "اللامغرب" باهظة جدّا ليست على المستوى الاقتصادي فقط على أهمّيته، بل وخاصّة على مستوى السيادة والاستقلال الحقيقي، وهنا بالذات ثمّة إجماع حقيقي في عدم التفريط بهما، فلتكن البداية من هنا! ولِتَكُن هذه المنطقة كما كانت من قبل في تاريخها محجّا لشعوب وحضارات تنصهر فيها وتتثاقف بعيدا عن منطق الغلبة والحلم بالسيطرة وإنهاء الآخر المختلف! إنّه الحلم مرّة أخرى بعيدا عن الطوباويات!