شهد العامان الماضيان العديد من التطورات الهامة وغير المسبوقة فيما يتعلق بالتفاعلات الروسية / الشرق أوسطية حيث تم قبول ثلاثة من الدول العربية، السعودية والإمارات ومصر، أعضاءً في مجموعة بريكس، وشركاء حوار في منظمة شنغهاي إلى جانب قطر، وهما من الأطر الدولية التي أسست لها وتقودها موسكو وبكين. يتسق هذا مع التوجه العام الذي تضمنته استراتيجية الأمن القومي الروسي الصادرة في يوليو 2021م، والتي نصت على تطوير علاقات الشراكة الشاملة والتفاعل الاستراتيجي، وتعميق التعاون في إطار منظمة شنغهاي للتعاون وبريكس كأحد أدوات تحقيق أهداف السياسة الخارجية الروسية وضمان الأمن القومي. وتتبنى موسكو في هذا الإطار منظور يتجاوز البعد العسكري الضيق للأمن القومي ويتسع ليشمل العديد من الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية والتكنولوجية، الأمر الذي يتيح آفاقًا رحبة للتعاون والشراكة بين روسيا ودول المنطقة.
تزامن هذا مع قفزة في الشراكة الروسية / الإيرانية في ضوء الدعم الذي قدمته طهران لروسيا خلال عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا، وقبول طهران عضواً هي الأخرى في بريكس وشنغهاي، مؤكدة أن تعاونها مع إيران ليس موجه ضد أي طرف ثالث، ولم ولن يكون على حساب الشراكة والتعاون مع الدول العربية لاسيما دول الخليج العربي التي تتمتع بأولوية واضحة في السياسة الروسية. لذا رحبت روسيا بالانفتاح النسبي الذي تبديه الأخيرة على طهران والتهدئة باعتبار أن ذلك يخدم الاستقرار بالمنطقة ويتيح لها الاستمرار في سياسة المتوازيات ودفع التعاون مع مختلف الأطراف بالقدر الذي يمضي إليه معها الشريك.
وقد أثار ذلك العديد من التساؤلات حول واقع ومستقبل السياسة الروسية في الشرق الأوسط، والموقف الروسي من قضايا المنطقة وتطوراته المستقبلية خاصة التصعيد الإيراني / الإسرائيلي على خلفية الأزمة في غزة ولبنان. وفى هذا السياق، يشير رصد وتحليل السلوك الروسي في المنطقة وما طرأ عليه من تحولات هامة في أعقاب الأزمة الأوكرانية إلى مجموعة من الأبعاد والتوجهات الرئيسية لموسكو، يمكن إيجازها في الآتي.
- تقدم الشرق الأوسط في فضاءات الحركة الروسية:
رغم انشغال روسيا بالحرب في أوكرانيا والمواجهة مع الغرب، وعلى عكس ما كان يتوقعه الكثيرون من أن يؤدى ذلك إلى تراجع اهتمام موسكو بالشرق الأوسط وانكفائها على الداخل، فقد أدت الأزمة إلى تزايد ملحوظ في الحراك الروسي باتجاه المنطقة وفى التعاون بين الجانبين. صحيح إن اهتمام روسيا بالشرق الأوسط ليس بجديد وله امتدادات تاريخية على مدى قرون، واستطاعت خلال العقد المنصرم التأسيس لنفوذ دائم وقوي، ودور فاعل في المنطقة، كان أوضح ما يكون في سوريا التي تحتضن أكبر قاعدتين روسيتين في الخارج، طرطوس البحرية وحميمي الجوية، وذلك عبر المزج بين القوة الصلبة والناعمة، وبين الأدوات الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية، إلا إن مستوى هذا الاهتمام شهد قفزة واضحة وتحولًا نوعيًا في أعقاب الأزمة الأوكرانية حيث نظرت روسيا إلى الشرق الأوسط كأحد الفضاءات الرئيسية الداعمة لها اقتصادياً وسياسياً، ورئة تدعم تنفس اقتصادها في مواجهة التضييق الذى مثلته العقوبات الغربية والإغلاق الكامل للفضاء الأوروبي.
فقد كانت أوروبا هي الوجهة الروسية الأولى، وسعت موسكو جاهدة منذ تفكك الاتحاد السوفيتي إلى الاندماج والتفاعل الاقتصادي النشط مع جوارها الأوروبي ومد شرايين من أنابيب الغاز تضمن الحياة والتطور لتعاونها مع أوروبا نظراً لكونها الأقرب جغرافياً وثقافياً، والسوق الأهم للطاقة الروسية وكذلك للحبوب والزيوت والأسمدة وغيرها حتى اندلاع الأزمة الأوكرانية وحظر الاتحاد الأوروبي كل ما هو روسي على إطلاقه. تزامن هذا مع ما يمكن أن يطلق عليه "الثورة الجيوبوليتيكية" بصعود الصين والهند وعدد من القوى الآسيوية ليس فقط اقتصادياً وإنما كقوى مؤثرة وفاعلة ذات مواقف مستقلة تعبر عن مصالحها وأولوياتها الوطنية. مما دفع روسيا إلى الاتجاه بمشروعها الأوراس شرقاً باتجاه آسيا، وكان الرئيس بوتين قد طرح "مشروع الأوراس" لأول مرة عام 2012م، بأهداف وأولويات اقتصادية، وللفضاء السوفيتي السابق بالأساس، وتم إطلاق الاتحاد الاقتصادي الأوراس عام 2015م، كترجمة لهذا المشروع. وفي أعقاب الأزمة الأوكرانية والتطور في الشراكة الروسية / الصينية على خلفية الموقف الصيني منها ورفض بكين الانخراط في نظام العقوبات الغربية على موسكو، تم ربط الاتحاد الاقتصادي الأوراس ومشروع الحزام والطريق الصيني مع الآسيان لخلق كتلة أوراسيا تمتد من روسيا ولبوروسيا إلى آسيا الوسطى والصين ودول الآسيان، وتشمل الدول الآسيوية باستثناء حلفاء واشنطن مثل اليابان وكوريا الجنوبية. وتعتبر روسيا الكتلة الأورآسية حائط صد في مواجهة واشنطن، والفضاء الاقتصادي الأهم لها.
ووفقًا لدائرة الجمارك الفيدرالية الروسية، فإنه مع التغيرات الحاصلة بعد انطلاق العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا وفرض حزم متتالية من العقوبات الغربية على موسكو تضمنت أكثر من 16 ألف عقوبة، لم تعد دول الغرب من الشركاء التجاريين الرئيسيين لروسيا، وشكل التبادل التجاري مع الدول الآسيوية نحو 51% من إجمالي التجارة الروسية عام 2023م. وتصدرت الصين شركاء روسيا اقتصاديًا وأكبر مستوردي الطاقة الروسية حيث تم تسجيل تبادل تجاري قياسي تجاوز 240 مليار دولار، وصعدت الهند إلى المركز الثاني حيث زاد حجم تجارتها مع روسيا ليصل إلى 64.9 مليار دولار.
وقد تجاوز المشروع الأوراس التعاون والشراكة الاقتصادية التي مازالت تمثل قلب الكتلة الأورآسية وشريانها الرئيسي، إلى التنسيق والتعاون الأمني، وتم عقد مؤتمر مينسك الدولي الثاني للأمن الأوراس، في الفترة من 31 أكتوبر إلى 1 نوفمبر، على مستوى وزراء الخارجية والمعنيين، وبمشاركة حوالي 600 مشارك من 45 دولة منهم وزراء خارجية المجر وسوريا، وسفير فلسطين في بوروسيا ممثلا لفلسطين، إلى جانب الأمين العام لرابطة الدول المستقلة ومنظمة شنغهاي للتعاون ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي، ومنتدى التفاعل وبناء الثقة في آسيا. وخلال المؤتمر القادم 2025م، سيتم تبنى "الميثاق الأوراس للتنوع والتعددية القطبية في القرن الحادي والعشرين"، تمهيداً لعقد المؤتمر على مستوى القمة وتحويله إلى إطار دائم للأمن والتعاون في أوراسيا.
في هذا الإطار، نظرت روسيا إلى الشرق الأوسط باعتباره امتداد طبيعي للكتلة الأورآسية والمشروع الأوراس الروسي، وحرصت على تعزيز التعاون مع دول الشرق الأوسط كدوائر بديلة ليس فقط للاقتصاد الروسي وإنما للدعم السياسي والدبلوماسي عبر اتخاذ هذه الدول مواقف غير معارضة لموسكو داخل وخارج الأمم المتحدة، محايدة أو مؤيدة، تكسر من خلالها محاولات الحصار وفرض العزلة عليها من جانب الغرب. وهو ما قامت به دول المنطقة، أسوة بعدد كبير من دول الجنوب، انطلاقًا من مصالحها ومقتضيات أمنها القومي، واعتبار الصراع في أوكرانيا شأن يخص القوى الكبرى في الشمال ويتعين النأي عن الانخراط فيه، كون "لا ناقة ولا بعير" لها فيه.
- الارتكاز على الشراكة مع السعودية والإمارات:
في قلب هذا الانعطاف الروسي نحو المنطقة تحظى الشراكة مع السعودية والإمارات باهتمام خاص في أولويات السياسة الروسية كشفت عنه زيارة الرئيس بوتين للدولتين في ديسمبر 2023م، والتي كانت الأولى لدول عربية منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية. وقد أدت الأخيرة إلى تطور غير مسبوق في العلاقات الروسية مع الدولتين نتيجة موقفهما من الأزمة، فرغم شراكتيهما الاستراتيجية مع الولايات المتحدة التزم البلدان الحياد ورفضا المشاركة في نظام العقوبات، ولم تستجيب الرياض للضغوط الأمريكية لوقف اتفاقات "أوبك +" مع روسيا بزيادة إنتاج النفط رغم الإلحاح الأمريكي وزيارة الرئيس جو بايدن لهذا الغرض، انطلاقًا من مصالحها في استمرار الاتفاق وكونه يدعم استقرار سوق النفط والاقتصاد السعودي. كما زار الشيخ محمد بن زايد روسيا مرتين بعد اندلاع الأزمة الأوكرانية وشارك في قمة بريكس بجازان الروسية، ولعبت الرياض وأبو ظبي دور الوسيط في تبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا، وبين موسكو والولايات المتحدة، واستطاعت أن تقدم نفسها كوسيط فاعل وهام في الأزمة الأمر الذي ثمنته روسيا وقدرته عالياً.
وتعتبر روسيا ضبط أسعار النفط حجر زاوية في ضمان أمنها القومي، بأبعاده الاقتصادية، والشريان الرئيسي للاقتصاد الروسي، وتوفير الموارد اللازمة لعمليتها العسكرية في أوكرانيا، ويأتي من ثم على قمة الأولويات الروسية، ويفرض ذلك التنسيق مع دول المنطقة، خاصة المملكة العربية السعودية، باعتبارها أكبر مصدر للنفط في العالم في إطار مجموعة "أوبك +". إلى جانب كون البلدين فضاء اقتصادي وسوق هام للحبوب والسلع والتكنولوجيا الروسية، وتصدرت الإمارات قائمة الشركاء التجاريين العرب لروسيا منذ عام 2023م، بإجمالي تجاوز 11 مليار دولار، وزاد التبادل التجاري بين موسكو والرياض على نحو ملحوظ ليصل إلى 3.3 مليار دولار، ولذا حرصت موسكو ودعمت قبول عضويتيهما في مجموعة بريكس.
- تعضيد استقرار الشراكات التقليدية وتطويرها:
في مواجهة الضغوط الأمريكية على دول المنطقة، كسائر دول الجنوب، للانخراط في العقوبات الغربية على روسيا ووقف التعاون معها، حرصت موسكو على الحفاظ على استقرار شراكاتها التقليدية لاسيما مع مصر وتركيا. وتعتبر روسيا أن مصر شريك استراتيجي هام في المنطقة، وتتفهم موقف مصر من الأزمة الأوكرانية وتقدر عدم مشاركتها في نظام العقوبات، واستمرارها في تطوير التعاون العسكري والتقني بين البلدين، وتقدم موسكو تعاونها مع مصر خاصة محطة الضبعة النووية والمنطقة الصناعية بمحور قناة السويس كنموذج للدول الإفريقية والترويج لمشروعات مماثلة معها.
كما ساهم عدم انضمام تركيا لنظام العقوبات الغربية على تحقيق نقلات نوعية في التعاون بين موسكو وأنقرة على النحو الذي أصبحت معه تركيا مركز Hub للغاز والحبوب الروسية، وأكبر مستورد للحبوب الروسية، وبلغت وارداتها من القمح الروسي رقم قياسي تجاوز 9 ملايين طن عام 2023م، وتقوم تركيا بإعادة تصديره إلى أوروبا في صورته الخام أو مصنوعات منه. من ناحية أخرى، ساعد الموقف التركي على بلورة تفاهمات أوسع نطاقاً بين موسكو وأنقرة حول سوريا وناجروني كارباخ وغيرها من القضايا الإقليمية.
وتظل سوريا الركيزة الأساسية للنفوذ الروسي في الشرق الأوسط والحليف الأبرز والداعم الأقوى للمواقف والسياسات الروسية كتوجه عام، وهو ما بدا جلياً خلال الأزمة الأوكرانية ودعم دمشق المطلق لموسكو. وقد نجحت جهود روسيا في إعادة تطبيع وضع سوريا الإقليمي والدولي وعودتها إلى مقعدها في جامعة الدول العربية بالتنسيق مع شركائها في المنطقة، وتبذل جهدًا واضحًا للمصالحة السورية التركية من ناحية وإنهاء كافة أشكال الوجود الأجنبي غير الشرعي في سوريا، وإعادة دمج الأكراد ضمن الدولة السورية من ناحية أخرى. وقامت في هذا الإطار بتطوير صيغة رباعية تضم وزراء خارجية سوريا وإيران وتركيا وروسيا اجتمعت لأول مرة في مايو 2023م. وفى 11 و12 نوفمبر 2024م، عُقدت الجولة 22 من مفاوضات أستانا حول سوريا في عاصمة كازاخستان شارك فيها وفود من الدول الضامنة لعملية أستانا روسيا وتركيا وإيران على مستوى الممثلين الرفيعين، وممثلون عن الحكومة والمعارضة السورية، ومندوبون عن الأمم المتحدة والأردن ولبنان والعراق. وإضافة إلى قضايا حل النزاع في الشرق الأوسط والوضع في سوريا تم بحث إطلاق الرهائن والبحث عن المفقودين والوضع الإنساني، وحشد جهود المجتمع الدولي لتسهيل عملية السلام، وإعادة إعمار سوريا وتهيئة الظروف لعودة اللاجئين السوريين إلى وطنهم.
- استمرار التوجهات الرئيسية للمواقف الروسية من الأزمات في ليبيا والسودان:
صاغت روسيا موقفها من الأزمة في ليبيا منذ بدئها وفق مجموعة من الثوابت أهمها رفض التدخل العسكري الغربي في ليبيا، ودعم التسوية السلمية والانتقال إلى دولة ليبية موحدة قوية لها مؤسسات فاعلة، وأن يكون لليبيا جيش موحد، وقامت بدعم المشير حفتر الذي استقبلته موسكو أكثر من مرة، مع محاولة الاحتفاظ بقنوات مفتوحة مع الأطراف الليبية المختلفة وخاصة سيف الإسلام القذافي. ويشهد الوجود الروسي في ليبيا، الذي برز منذ عام 2019م، على شكل وحدات شبه عسكرية (مجموعة فاجنر)، تزايدًا ملحوظًا منذ مطلع العام الجاري حيث تعمل موسكو على نقل القوات والمعدات، ويقدر وجود 1800 روسي في ليبيا.
فيما يتعلق بالسودان، أعلنت روسيا دعمها لوقف إطلاق النار في السودان دون تحرك مباشر في هذا الصدد، وتردد وجود عناصر من فاجنر تقوم بتدريب قوات الدعم السريع والتعاون معها في استخراج الذهب. إلا إنه في مايو 2024م، قام المبعوث الروسي للشرق الأوسط وإفريقيا، ميخائيل بوجدان وف، بزيارة بورتسودان وأعلن لأول مرة أن "مجلس السيادة السوداني هو السلطة الشرعية التي تمثل الشعب السوداني". تلى ذلك زيارة نائب رئيس مجلس السيادة السوداني مالك عقار لروسيا حيث حصل على تعهدات من موسكو بإمدادات عسكرية ضخمة مقابل الحصول على ضمانات مؤكدة لإقامة القاعدة الروسية على سواحل البحر الأحمر وامتيازات في مجالي التعدين والزراعة.
- موقف سياسى داعم لغزة وتراجع في العلاقة مع إسرائيل:
احتفظت موسكو لعقود بعلاقات جيدة مع إسرائيل دون المساس بموقفها التاريخي والثابت الداعم للقضية الفلسطينية، وكونها عضو الرباعية الدولية المعنية بالتسوية السلمية، والتي تم تجميدها منذ ما يقرب من العقدين، إلا إن العلاقات الروسية الإسرائيلية شهدت توترًا واضحًا نتيجة الموقف الإسرائيلي الداعم لأوكرانيا خصوصًا ملف تسليح أوكرانيا وتهديد تل أبيب المتواصل بمدها بمنظومة القبة الحديدية وغيرها من الأسلحة النوعية.
زاد التوتر مع الموقف الروسي من غزة عقب عملية طوفان الأقصى حيث استقبلت موسكو وفد حركة "حماس" في 26 أكتوبر 2023م، وهو ما فسرته إسرائيل على أنه دعم صريح للحركة في مواجهتها. وردت مباشرة باستدعاء السفير الروسي لديها للاحتجاج معتبرة أن دعوة موسكو لحماس تبعث برسالة تضفي "الشرعية على الإرهاب ضد إسرائيل"، كما أعلنت موافقتها على استقبال الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي بعد أن سبق ورفضت استقباله بحجة "التوقيت غير مناسب"، ولكن لم تستقبله حتى تاريخه.
إلا إن موسكو أبدت تمسكًا بـ "حق الدولتين"، مشيرة إلى تقاعس الولايات المتحدة على مدى 75 عامًا في الوصول للحل العادل والمنطقي، واستقبلت موسكو الرئيس الفلسطيني للتنسيق والتشاور في هذا الخصوص. بل وشبه الرئيس بوتين "الحصار على غزة بالحصار النازي على لينين جراد". وتقدمت روسيا بعدة مشروعات لوقف إطلاق النار في غزة اصطدمت جميعًا بالفيتو الأمريكي، مؤكدة أهمية التسوية السلمية الشاملة والعاجلة. واستخدمت روسيا حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن لتعطيل مشاريع القرارات التي تقدمت بها واشنطن وتمنح إسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها، وتنكر حق الفلسطينيين في ذلك، كما رفضت القرارات التي تصنف "حماس" منظمة إرهابية، أو اتهامها باستهداف المدنيين، أو تلك التي تدعو إلى استمرار الحرب وترفض وقف إطلاق النار. وعلى صعيد أخر، طلبت روسيا السماح لها بإنشاء مستشفى ميداني في غزة كمساعدة انسانية للفلسطينيين، إلا أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي رفضت الطلب الروسي.
ويماثل الدور الروسي في أزمة غزة نظيره السوفيتي إلى حد كبير، والذي لم يكن دور قائد أو مهيمن في الملف الفلسطيني مقارنة بنظيره الأمريكي، ويرجع التعقد القائم في المفاوضات لوقف إطلاق النار ليس إلى تفكك الاتحاد السوفيتي وانحصار الفاعلية الروسية، وإنما إلى ضعف إدارة بايدن وعدم ممارستها ضغوطًا حقيقية على إسرائيل، وكونها تنطلق من موقف مبدئي مؤيد لتل أبيب وحقها في الدفاع عن نفسها ضد ما تعتبره إرهاب من جانب إيران وأذرعها في المنطقة ومنها حماس.
- تطور ملحوظ في الشراكة الاستراتيجية مع إيران:
وضعت العقوبات الغربية الضخمة المفروضة على روسيا على خلفية العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا البلدين في خندق واحد، وجعلت كل منهما متنفس حيوي لاقتصاد الآخر، ودفعت لتفعيل ممر "شمال – جنوب" الذي يربط روسيا والهند عبر إيران، يدعم هذا الرصيد الهام من التفاهمات السياسية بينهما حول مدى واسع من القضايا الدولية والإقليمية الحيوية لكليهما والتي تمس المصالح والأمن القومي للبلدين، وفى مقدمتها سوريا، وأفغانستان، وناجروني كارباخ. هذا إلى جانب دفع التعاون العسكري بين البلدين إلى مستويات نوعية تؤشر لشراكة أعمق اعتبرها البعض "شراكة دفاعية كاملة" وإن لم تصل بعد لمستوى التحالف الكامل والمعلن، ولعل أحد أهم أبعاد ذلك إمداد روسيا بالطائرات المسيرة الإيرانية، وصفقات الأسلحة الروسية إلى إيران، وتسليمها أسلحة غربية كانت قد استولت روسيا عليها أثناء المعارك في أوكرانيا، وما تردد من تزويد روسيا بصواريخ باليستية إيرانية من طراز "فاتح 360" قصيرة المدى، مقابل مقاتلات "سو 35" الروسية لإيران.
فضلاً عن التعاون الأمني والاستخباراتي بين البلدين لاسيما في المجال السيبراني. ومن ذلك قيام موسكو بتقديم معلومات استخباراتية لطهران قبل بدء الهجوم الإسرائيلي عليها بساعات في 26 أكتوبر 2024م، حيث أبلغت إيران بوجود تحركات عسكرية أمريكية وإسرائيلية، بهدف الحد من التصعيد في المنطقة، ولعبت روسيا دورًا هامًا في دفع إيران إلى ضبط النفس في المواجهة مع إسرائيل.
وقد انتهى البلدان من صياغة اتفاقية "شراكة شاملة" بينهما تشمل الدفاع المشترك، وصفها الطرفان بأنها تضع أساساً لتعاون وثيق بين البلدين لعقود مقبلة، وتم البدء في صياغتها مطلع عام 2022م، وكان من المقرر توقيعها خلال قمة مجموعة بريكس في قازان أكتوبر الماضي، ولكن تم تأجيل ذلك ليتم خلال زيارة مقررة للرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، لموسكو نهاية العام. وسيتم كذلك إقرار مجموعة واسعة من الاتفاقات المشتركة أبرزها اتفاقاً لتسريع صفقات التنقيب عن الغاز وإنتاجه وبيعه بقيمة 40 مليار دولار. ويجعل الاتفاق لروسيا، إلى جانب الصين، الامتياز الأول في حقول الغاز الرئيسية في إيران. وفى 11 نوفمبر أعلن البنك المركزي الإيراني ربط الشبكتين المصرفيتين الروسية "مير" والإيرانية "شتا"، في إطار تعزيز الروابط المالية والتجارية. وسيسهم ذلك في تعزيز التعاون الاقتصادي والتخلص من الدولار في التجارة بين البلدين، فضلًا عن تسهيل العلاقات الاقتصادية والسياحة بينهما. ويعد ذلك حصاد زيارات مكثفة متبادلة على مختلف المستويات، كان من أهمها زيارة رئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميؤوستين وسكرتير مجلس الأمن القومي سيرجي ويجو لإيران.
رغم أن الأزمة الأوكرانية قد أوشكت على الانتهاء بوصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، فإن تداعياتها لن تنتهي، وسيظل المشروع الأوراس وامتداده الشرق أوسطي الحاكم للسياسة الروسية، فروسيا أيقنت الدرس جيداً وتسعى للحفاظ على دوائر الحركة الآمنة والمستقرة ودفع التعاون معها إلى أقصى مدى، كما تدعم حل الصراعات ووقف الحروب كافة في المنطقة باعتبار ذلك شرط مسبق وعامل ضروري لتطوير شراكاتها مع دول المنطقة وإطلاقها لفضاءات أرحب.