يبدو العالم على مشارف تغيرات جذرية في أعقاب الحروب الطاحنة التي يُزكي أوارها الأمريكيون والغرب في سبيل مصالحهم الخاصة لتوسيع سيطرتهم وخدمة أهدافهم. فما زالت طبول الحرب تتصاعد بين أوكرانيا وروسيا في الشمال، وفي منطقتنا لا يتوقف البطش الإسرائيلي العنيف الذي يستهدف المدنيين ويدمر البنى التحتية. وكلها رسائل خطيرة تنبه العالم الإسلامي لحماية أمنه وسلامة أراضيه، وقد ظل الأعداء قرونًا طويلة ينهبون ثروات الشعوب ويستغلون قدراتهم، ولابد من صحوة حاسمة لتعزيز بناء القدرات الأمنية والعسكرية في إطار تعاون هادف وبناء من خلال تطوير المفهوم الاستراتيجي ورصد التهديدات وتعزيز الشفافية والثقة المتبادلة بين الدول الأعضاء في منظمة العالم الإسلامي.
تفعيل العمل الإسلامي المشترك
أدركت الدول الإسلامية أن استقلالها السياسي لن يكتمل دون استقلال اقتصادي، وتعاون مشترك وتكامل أمني. كما أن محنة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال الإسرائيلي والعدوان المتواتر على الأماكن المقدسة الإسلامية في القدس، أشعلت بشكل مباشر الجهود الرامية إلى إنشاء منظمة شاملة للدول ذات الأغلبية المسلمة.
تشكل الدول الإفريقية والعربية أغلبية كبيرة من الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي التي تضم 57 دولة عضوًا، وتمتد عبر أربع قارات. وهذا يجعل منها منظمة تعكس التنوع السياسي والاقتصادي للدول الأقل نموًا. وقد أكد ميثاق المنظمة إطار الأهداف والمبادئ الرامية إلى تعزيز وترسيخ أواصر الأخوة والتضامن بين الدول الأعضاء في سبيل حماية المصالح المشتركة ودعم قضاياهم المشروعة. وعلى رأس هذه الأهداف: -استعادة السيادة الكاملة وسلامة أراضي أي دولة عضو واقعة تحت الاحتلال نتيجة للعدوان، على أساس القانون الدولي والتعاون مع المنظمات الدولية والإقليمية ذات الصلة؛ -تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري بين الدول الإسلامية من أجل تحقيق التكامل الاقتصادي؛ -حماية الصورة الحقيقية للإسلام والدفاع عنها؛ -التعاون في مكافحة الإرهاب بجميع أشكاله ومظاهره، والجريمة المنظمة.
وتسعى المنظمة جاهدة لتكون الصوت الجماعي الذي يمثل العالم الإسلامي. وتهدف إلى حماية وصيانة مصالح المسلمين بروح تعزيز السلام والأمن والوئام الدوليين، فضلاً عن الحوار بين الأديان في مختلف شعوب العالم. وفي هذا السبيل أسست المنظمة عددًا من الأجهزة لتنظيم ومتابعة أنشطتها، تمثلت في الأمانة العامة، وأجهزة فرعية، ومؤسسات تابعة، وأخرى متخصصة كالبنك الإسلامي للتنمية، والمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة. كما وضعت المنظمة برنامجًا يعطي أولوية لقضايا السلام والأمن، وفلسطين والقدس، ومكافحة الإرهاب، والعلوم والتكنولوجيا، وتغير المناخ، والعمل الإنساني الإسلامي المشترك، وحقوق الإنسان والحكم الرشيد.
العالم الإسلامي بين التحديات الداخلية والأخطار الخارجية
يشكل العالم الإسلامي رقمًا صعبًا في المعادلة الدولية لأهمية موقعه الجغرافي الاستراتيجي بين آسيا وإفريقيا وتعداد سكانه البالغ أكثر من 1.5 مليار نسمة، فضلًا عن ثرواته النفطية والغاز الطبيعي بشكل أساسي. لكنه يعاني من مشكلات تكبح تطوره وتتمثل في ثلاثة أسباب رئيسية وهي: الاعتماد على استيراد مختلف التكنولوجيات والصناعات بما فيها المنتجات العسكرية، والخلافات فيما بين الدول الإسلامية نفسها على ترسيم الحدود أو التنقيب عن النفط والغاز برًا وبحرًا أو على تقاسم المياه العابرة للحدود أو التي تحد بين دولتين أو أكثر. أو تدخل دولة في الشؤون الداخلية لدولة أخرى عبر دعم مجموعات معينة داخلها. أو التنافس من أجل الهيمنة لأسباب متعددة. واشتعلت الصراعات في المنطقة الإسلامية، كالخلاف بين المغرب وإسبانيا، وبين تركيا وكل من قبرص واليونان وأرمينيا، أو بين باكستان والهند، أو السودان وجنوب السودان وما إلى ذلك. ويبقى الخطر الأكبر متمثلًا في تأسيس الكيان الصهيوني في قلب العالم الإسلامي وعلى أرض فلسطين ودوره في تهديد المسلمين والعرب في وجودهم ومستقبلهم وثقافتهم ودينهم وعرقلة تنميتهم وفي تشكيله رأس حربة لإبقاء المسلمين تحت التبعية والخطر.
تتعرض الجغرافيا الإسلامية بصفة دائمة لأطماع الدول الاستعمارية في ثرواتها وفي موقعها الاستراتيجي وتحرص على إبقاء الدول المسلمة مفتتة خشية تكتلها واتحادها. وعلى الرغم من خصوصيات المجتمعات الإسلامية وطبيعة المشكلات التي تعاني منها فإن الاستفادة من تجارب المنظمات الإقليمية الأخرى سيكون أمرًا مهمًا ولا سيما تلك التي دخلت في حروب دامية لكنها نجحت في تجاوز العديد من المشكلات ومن أبرز الأمثلة على ذلك "الاتحاد الأوروبي".
هناك قوى ودول من انتماءات متعددة تناوبت على استهداف العالم الإسلامي منذ قرون. وفي اللحظة الراهنة يظل مسرح الحروب التي يشنها الغرب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بقيادة الولايات المتحدة خصوصًا هو العالم الإسلامي (أفغانستان، العراق، ليبيا، السودان، سوريا). إن تحديد الأطماع الغربية في العالم الإسلامي كواحدة من أكبر الأخطار والتحديات يتطلب الشجاعة الكاملة من منظمة التعاون الإسلامي لكي تنجح في رسم سياسات المواجهة والدفاع عن الجغرافيا الإسلامية.
أولويات عمل المنظمة
تتبنى المنظمة جميع القضايا المرتبطة بمسلمي العالم على اختلاف وتنوع التكوين الوطني والسياسي والاقتصادي والثقافي لهم. وذلك مما دعا إلى إعطاء أولوية لأهداف وبرامج محددة للعمل حتى 2025م، تمثلت في الآتي: (1) قضية فلسطين، وتحظى بأولوية على جدول أعمال المنظمة منذ إنشائها. ومع بدء عملية السلام في الشرق الأوسط في مؤتمر مدريد عام 1991م، تبنت الدعوة إلى حل سلمي للصراع مع إسرائيل على أساس حل الدولتين. كما اعتمدت في طهران عام 2003م، مبادرة السلام العربية، التي تسمح بتطبيع العلاقات مع إسرائيل بعد حل القضية الفلسطينية وفقاً لقرارات الأمم المتحدة. وأعطت المنظمة دائماً أولوية قصوى واسعة النطاق لدعم الشعب الفلسطيني سياسيًّا ودبلوماسيًّا. وبفضل الدعم التصويتي القوي للكتلة الإسلامية في المنظمة، تم قبول فلسطين في اليونسكو كعضو كامل العضوية في 2011م، وتسجيل فلسطين في الأمم المتحدة كدولة مراقبة في 2012م. كما أنشأت المنظمة في 2018م صندوقاً خاصاً لمساعدة (الأونروا) إثر سحب ترامب دعمه لها. (2) السلام والأمن، وقد وضعت المنظمة آليات متعددة لمنع الصراعات، والوساطة، وحل النزاعات سلميًا. ساعدت المنظمة في استقرار الوضع في العراق بالمشاركة في محاولات إنهاء العنف الطائفي بين السنة والشيعة تمخضت عن التوقيع على "إعلان مكة" وتحقيق المصالحة الوطنية الشاملة، وتبنت دعم إعادة إعمار العراق وتنميته والحفاظ على سلامة أراضيه وسيادته. وفي مسألة النزاع حول جامو وكشمير بين باكستان والهند أنشأت المنظمة مجموعة اتصال ودعت إلى احترام تطلعات الكشميريين ودعم الحل السلمي لهذا النزاع بما يتماشى مع قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة. وحثت الحكومة الهندية في عدة مناسبات على تحسين وضع حقوق الإنسان في كشمير، كما عينت المنظمة مبعوثاً خاصاً في محاولة لتسهيل الحل السلمي للصراع. كما تناولت اجتماعات المنظمة أيضاً الوضع في الصومال، ودعت جميع الدول إلى احترام سيادة الصومال والامتناع عن التدخل في شؤونه الداخلية، وفتحت لها مكتباً تمثيلياً في مقديشو للقيام بأعمال إنسانية وإعادة إعمار، (3) مكافحة الإرهاب والتطرف وكراهية الإسلام، إذ رفضت المنظمة بشدة، في معظم اجتماعاتها الوزارية وعلى مستوى القمة، جميع أشكال الإرهاب. واعتبرت أن مكافحة الإرهاب تشكل أولوية رئيسية لجميع الدول الأعضاء، وأكدت عزمها على العمل معًا لمنع وقمع الأعمال الإرهابية من خلال زيادة التضامن والتعاون الدوليين، مع الاعتراف الكامل بالدور المركزي للأمم المتحدة، والإقرار بأنه لا يمكن معالجة الإرهاب بالوسائل الأمنية أو العسكرية وحدها. ودعت كذلك إلى "إيلاء الاهتمام الواجب وإعداد خطط ملموسة لمعالجة الأبعاد المختلفة والأسباب الجذرية للإرهاب". وتماشياً مع هذا النهج، وقعت المنظمة ومكتب الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب مذكرة تفاهم بشأن التعاون بينهما في مجال مكافحة الإرهاب كما عقد مجلس الأمن جلسة خاصة دعا فيها إلى تعزيز التعاون مع منظمة التعاون الإسلامي في جهود مكافحة الإرهاب.
العلاقات والشراكات الدولية
تعتبر منظمة التعاون الإسلامي اليوم واحدة من أكبر المنظمات الحكومية الدولية. إن الدائرة الانتخابية الكبيرة التي تمثلها 57 دولة، والمجموعة الكبيرة من القضايا التي تروج لها منظمة التعاون الإسلامي، كل ذلك يمنحها مسؤوليات معينة كلاعب دولي. وفي هذا الإطار، بنت المنظمة شبكة أفقية واسعة من العلاقات مع المنظمات الدولية والإقليمية. واليوم، تعتبر منظمة التعاون الإسلامي، التي تتمتع بوضع مراقب لدى الأمم المتحدة، شريكاً مهماً للأمم المتحدة في الأمور المتعلقة بالسلام والأمن الدوليين، والعمل الإنساني، والتنمية، والوساطة.
تطورت وتوسعت علاقات منظمة التعاون الإسلامي مع العديد من الدول. وقد عينت دول مثل كندا والمملكة المتحدة وفرنسا والسويد وألمانيا وإيطاليا مبعوثين خاصين على مستوى السفراء لدى منظمة التعاون الإسلامي. كما انعقدت جولات منتظمة من المشاورات بشأن القضايا ذات الاهتمام المشترك بين منظمة التعاون الإسلامي ووزارات خارجية هذه الدول. وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، سعت العديد من الدول في أوروبا وأمريكا الجنوبية وآسيا أيضاً إلى الحصول على عضوية مراقب في منظمة التعاون الإسلامي.
وفي سبيل تعزيز التعاون بين الدول الأعضاء تم تشريع العديد من الاتفاقيات والمعاهدات مثل اتفاقية إنشاء اللجنة الإسلامية للهلال الدولي، والعهد الخاص بحقوق الطفل في الإسلام، واتفاقية مكافحة الإرهاب، ومن أمثلة بعض الآليات الاقتصادية للمنظمة: الاتفاقية العامة للتعاون الاقتصادي والفني والتجاري، واتفاقية تعزيز وحماية وضمان الاستثمار بين الدول الأعضاء، واتفاقية إطارية بشأن نظام الأفضليات التجارية بين الدول الأعضاء، وبروتوكول بشأن نظام التعريفات التفضيلية لنظام الأفضليات التجارية بين الدول الأعضاء.
رؤية لتطوير المنظمة
لقد تحولت منظمة التعاون الإسلامي، التي أنشئت في عام 1969م، ببند واحد على جدول أعمالها، إلى منظمة حكومية دولية كبيرة ذات جدول أعمال موسع يغطي مجموعة واسعة من القضايا التي تتراوح من السلام والأمن إلى تخفيف حدة الفقر ومكافحة الأمراض والإرهاب. وهي منظمة تقف اليوم كشريك معترف به للمنظمات الدولية والإقليمية الراسخة بما في ذلك الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، فإن منظمة التعاون الإسلامي، من أجل أن تصبح منظمة أكثر فعالية وقادرة على إحداث آثار إيجابية في العالم وأن يكون لها رأي في السياسة العالمية يتناسب مع حجم عضويتها، تحتاج إلى إصلاح العديد من أساليب عملها واستراتيجياتها وهياكلها. على سبيل المثال، يجب على منظمة التعاون الإسلامي أن تفكر في إنشاء جهاز خاص داخل هيكلها للتعامل مع قضايا السلام والأمن ومكافحة الإرهاب. وفي حين أن برنامج العمل الحالي لعام 2025م، يمكن أن يساعد في توجيه المنظمة نحو دور نشط في معالجة المخاوف المهمة في العالم الإسلامي، فإن هيكل منظمة التعاون الإسلامي يحتاج إلى مراجعة دقيقة. وينبغي أيضًا إيلاء الاهتمام الكافي لرؤية منظمة التعاون الإسلامي. وفي هذا الصدد، ينبغي لمنظمة التعاون الإسلامي أن تسعى إلى التوسع وفتح المزيد من المكاتب التمثيلية في مختلف أنحاء العالم، وخاصة في العواصم الكبرى في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك عواصم الدول الأعضاء في المنظمة. ومع ذلك، يظل تحسين عمل المنظمة وكفاءتها مهمة صعبة دون دعم حقيقي وقوي من الدول الأعضاء فيها. ومن ثم، يقع على عاتق الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي مسؤولية تطوير المنظمة وتمكينها من أن تصبح أداة أكثر فعالية في تعزيز التنسيق بين الدول الأعضاء وتعزيز عملها المشترك.
شدد وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، على أن السعودية تجدد تأكيدها على ضرورة إعادة هيكلة منظمة التعاون الإسلامي، وتطويرها وإصلاح أجهزتها لمجابهة التحديات الإقليمية والدولية التي تمر بها أمتنا، كما أعرب عن الأسف إزاء فشل مجلس الأمن والمجتمع الدولي حتى الآن في وقف الاعتداءات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين.
إن الأمر يقتضي استحداث آليات لتفعيل العمل المشترك والاستعانة بقوات إسلامية عند الضرورة لتهدئة التوترات بدلا من قوات من خارج العالم الإسلامي. ومن المفيد إنشاء محكمة عدل إسلامية من قضاة مشهود لهم بمعزل عن حجم الدول التي ينتمون إليها لفض النزاعات بين الدول الإسلامية حول الحدود او أية قضية أخرى وأن تكون قرارات المحكمة بغالبية ساحقة. ومع إنشاء نظام للحماية المدنية والعسكرية يناط به حماية المدنيين، والفصل في النزاعات بين الدول، وسيكون من شأن تجربة التحالف الإسلامي، وتأسيس جيش الدفاع الإسلامي، والارتقاء بالصناعات العسكرية أن يتحقق الأثر المنشود في الحماية والأمن.
التحديات والمعوقات
ترمي منظمة التعاون الإسلامي إلى حماية الأمن والسلام في أرجاء الدول الإسلامية. وفي عالم اليوم حيث تتصاعد الصراعات وتتبدل التحالفات وتسعى الدول القادرة إلى بسط سيطرتها على الشعوب المستضعفة، ونهب ثرواتها، واستغلال مواقعها. وفي سبيل ذلك تطور هذه الدول القادرة أسلحتها الغاشمة، وتنشر وسائلها المضللة وادعاءاتها الباطلة عن الحماية والدعم. إن الدول الإسلامية، وهي تنشد الأمن والسلام لابد أن تتمتع بالقوة والصلابة بكل أشكالها كي يخشاها الأعداء حتى وإن تظاهروا بدعوى الحماية والتأمين بينما هم يخفون مقاصد الاستغلال والهيمنة. وتكشف قراءة التاريخ عن نوايا وأساليب الدول الكبرى في القرصنة والابتزاز، وهم لا يبغون إلا مصالحهم الخاصة في كل تحرك أو تدخل. إن للقوة أدواتها كما يعرفها عالم اليوم، ويتوافر منها لدى العالم الإسلامي مصادر التمويل، والخامات ذات القيمة المتميزة والحرجة، وعليه أن يشارك في طفرات التكنولوجيا والتسليح في عالم اليوم.
ملاحظات ختامية
- اعتبارًا من مارس 2024م، تمتلك الدول المسلحة نوويًا في العالم ما مجموعه حوالي 12,100 رأس نووي. والدول المعترف بها رسميًا على أنها تمتلك أسلحة نووية هي الدول الخمس: الصين، فرنسا، روسيا، المملكة المتحدة، والولايات المتحدة. وفي حوزة الولايات المتحدة وروسيا أكثر من 90% من هذه الرؤوس. ويوجد منها نحو 9,600 رأس في الخدمة العسكرية والباقي ينتظر التفكيك.
- في نظرة إلى الدوافع والتحديات والآفاق التي تواكب التوجه نحو إعادة التسليح وبناء قوات الدفاع الإسلامية نرى أن العالم يشهد تحولات جيوسياسية وأمنية كبيرة دفعت الدول إلى إعادة التفكير في استراتيجية الأمن والدفاع والسعي إلى بناء نظام أمني قائم على الشراكة الاقتصادية والسياسية والأمنية. وسيطر التوجه نحو إعادة بناء قوة دفاعية ذاتية بعيداً عن الاعتماد المطلق على القوى الخارجية. لقد استمرت روسيا والصين في تنفيذ سياسات تعزز من القوات العسكرية والنفوذ على الساحة الدولية، وبرز التحول في دور الولايات المتحدة عن دعمها التقليدي لأوروبا، والتركيز بشكل أكبر على التحديات الاقتصادية والسياسية مع الصين. وتتزايد لدى دول العالم الإسلامي الرغبة في الاستقلالية وتحقيق مزيد من السيطرة على الشؤون الأمنية لتكون قادرة على الرد السريع على أية تهديدات، ويعزز هذا الطموح وجود تقارب حول أهمية توسيع التعاون العسكري وتطوير قدرات دفاعية مشتركة.
- تواجه الدول المسلمة تهديدات أخرى كالإرهاب، وأزمات الهجرة، والتغيرات المناخية، وتتطلب تلك التحديات أحياناً تدخلاً عسكرياً أو تأمينًا للحدود، مما يشير إلى ضرورة إيجاد بنية عسكرية قادرة على التعامل مع طيف واسع من التهديدات. ولابد من تضافر الجهود لبناء منظومة دفاعية ذاتية، ويبرز التوجه نحو تأسيس جيش إسلامي، حيث تهدف هذه الفكرة إلى تكوين قوات قادرة على العمل ضمن إطار موحد وتحت إدارة موحدة. وسيتطلب ذلك زيادة الميزانيات الدفاعية، إذ يُعتبر الإنفاق العسكري عاملاً أساسياً لتحسين القدرات الدفاعية وتطوير نظم التسليح.
- من التحديات التي تواجه بناء قوات دفاع مستقلة وجود تفاوت ملحوظ في مستوى القدرات العسكرية بين الدول المسلمة، وربما يشكل هذا التفاوت تحدياً أمام إنشاء قوة دفاعية متكاملة وفعالة، وقد يؤدي إلى تعقيد مسألة التمويل والتسليح. وعن التمويل والدعم اللوجستي فإن تأسيس قوات دفاعية قوية يتطلب استثمارات ضخمة في البنية التحتية والمعدات والتكنولوجيا. ورغم زيادة الميزانيات الدفاعية، إلا أن بعض الدول قد تواجه صعوبة في تأمين التمويل اللازم لتحديث قواتها. كما أن مسائل الدعم اللوجستي، مثل توفير قواعد عسكرية وتخزين الأسلحة، تمثل تحديات إضافية.
- مما يعزز دور العالم الإسلامي كقوة عالمية في المستقبل نجاح الدول الإسلامية في بناء قوة دفاعية متكاملة، فقد تصبح أكثر قدرة على لعب دور مستقل على الساحة الدولية، ومواجهة أية قوى عالمية معادية. وقد يتيح هذا فرص التفاوض مع الآخرين من موقع قوة، ليس فقط في الشؤون الأمنية، بل أيضاً في القضايا الاقتصادية والبيئية. وفي ظل زيادة المنافسة العالمية، قد تتجه دول العالم الإسلامي إلى توسيع شراكاته مع قوى آسيوية صاعدة مثل الصين واليابان وأستراليا لمواجهة التحديات الأمنية المشتركة. يمكن أن يساهم هذا التعاون في تقليل الاعتماد على قوى مهيمنة وتعزيز التنوع في التحالفات الاستراتيجية. لقد أدت الصراعات القائمة بين روسيا وأوكرانيا وبين إسرائيل والفلسطينيين إلى إعادة توجيه السياسات نحو تعزيز القدرات الدفاعية للعالم الإسلامي بهدف تحقيق أمنه واستقراره، وحل أية نزاعات مسلحة بين أعضاء المنظمة. ورغم وجود تحديات كبيرة، فإن التحركات نحو بناء قوة دفاعية إسلامية تعكس طموحاً حقيقياً نحو الاستقلال الأمني. ومن الممكن أن يؤدي هذا التوجه إلى تغييرات في الخريطة الجيوسياسية العالمية، ويعزز من قدرة الدول المسلمة على التصدي للتحديات المستقبلية.
- أفرزت الحروب الحديثة نقلة نوعية في مجال التسليح، والحديث الآن عن الذكاء الاصطناعي Artificial intelligence، والحرب السيبرانية Cyberwarfare والروبوت Robots، والمسيَّرات Drones، والصواريخ فرط الصوتية Hypersonic missiles. أصبحت الصواريخ مثلاً غاية في الدقة لإصابة الهدف، وتزايد المدى وتصاعدت القوة التدميرية، وبلغت السرعة قياسات فرط صوتية، وصار المسار متعرجًا يصعب تتبعه، وتعددت الرؤوس لتنفصل وتصيب أهدافاً متفرقة، وأصبح احتمال اكتشافها واعتراضها ضعيفاً للغاية. ومعلوم أن هناك تكنولوجيات حرجة في المجال العسكري تحظر دولٌ تداولها، وقد يتطلب الأمر الاستعانة بشريك أجنبي لنقل الخبرات في مشروع تكنولوجي، ولابد من التدقيق عند اختياره، فمنهم من يتعمد نقل معلومات مغلوطة، ومنهم من يبدأ الشراكة لكسب المال وبعد حين يضع العراقيل لوأد المشروع.
- لابد من إطلاق برامج مشتركة للبحث والتطوير العسكري، بهدف إنتاج أنظمة تسليح وتقنيات متطورة تقلل من الاعتماد على واردات السلاح من الخارج. ومن أبرز المبادرات في هذا السياق صندوق الدفاع المشترك وهدفه تمويل مشروعات الدفاع المشتركة وتعزيز التكامل بين الصناعات العسكرية. وفي سبيل تطوير القدرات وتعزيز الاستجابة السريعة لأية تهديدات يتجلى هذا التكامل في العديد من التدريبات العسكرية المشتركة وتبادل المعلومات. إن عماد البحوث والتطوير يتمثل في الإمكانات البشرية والمادية والعمل المستمر مهما طال الزمن لبلوغ الهدف، وينبغي إدراك أن تنفيذ مشروعاتٍ تقنية مهما كانت تعقيداتها ليست حكراً على دول معينة، وستتوافر إدارتها في العالم الإسلامي المتسع ما إن توافرت النية والإرادة.